سباق صيني ــ روسي ــ أميركي على ثروات أولان باتور تبرز منغوليا في أوراسيا كمحطة صراع مرتقبة بين ثلاث دول أساسيّة هي الولايات المتحدة وروسيا والصين، التي تتسابق لكسب الموقع الاستراتيجي والثروات الطبيعيّة لهذا البلد. صراع عنوانه، إلى اليوم، السياسة والاقتصاد
ربى أبو عمو
أراد الرئيس الأميركي جورج بوش نقل تكساس، أكبر ولاياته الزراعية وإحدى أهم البؤر النفطية في الولايات المتحدة، إلى مكان آخر، حيث يمكنها التجسّس لمصلحة إدارته. أَلبس الولاية قبعتها التقليدية المصنوعة من القشّ ، اعتلت حصانها البرونزي وسار بها إلى منغوليا، البقعة الواقعة بين روسيا والصين، الإمبراطوريتين الصاعدتين في وجه واشنطن. كان بوش أوّل رئيس أميركي يزور منغوليا في عام 2005. شبّهها بتكساس لسمائها ومساحاتها الشاسعة. زار أولان باتور ليشكرها على دعمها ومشاركتها في الحرب على العراق، وليبارك نجاحها في الانسحاب من مظلة الاتحاد السوفياتي السابق من خلال القفز نحو الديموقراطية. في هذه العاصمة، حيث تنتشر الديانات البوذيّة والإسلام والشامانيّة (عبادة القوى الخفيّة والطبيعة)، شبّه بوش الإسلام الراديكالي بالأيديولوجية الشيوعية، ليصل إلى أن مصيره هو الانتهاء على غرار الشيوعية.
لوهلة، نسي بوش أو تناسى، أن الفكر الأيديولوجي لم يمت في موسكو، بل اختلف. سقطت الشيوعية ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي السابق، وحلّت القومية الروسية، الحسّ الوطني، الشراسة المتأصلة في وجه أي قوّة تفكّر في خطف ممتلكاتها أو حتى مضايقتها. لذا، فاللعب في منطقة أوراسيا هو أبعد ما يكون عن الاكتفاء بطائرة ورقية. وتمثّل الولايات المتحدة والصين وروسيا «مثّلث برمودا» في أوراسيا. وبعيداً عن الشرق الأوسط، الذي بات مزداناً بالحروب بهدف السيطرة على احتياطاته النفطية بصورة أساسية، ستنتقل المعركة إلى منطقة أوراسيا، للسبب نفسه.
روسيا، البطلة الجيو سياسية وسيّدة الجهة الشرقية من الكرة الأرضية، تنافس الولايات المتحدة والصين، من خلال تركيزها على منغوليا الغنية بالثروات الطبيعية من الفحم والنحاس واليورانيوم، لتغدو هذه الدولة محور اللعبة الأكبر في أوراسيا، ولا سيما أنه مع صعود الصين والهند، فإن السباق على الثروة المعدنية سيمثّل المسرح الأساسي للصراع العالمي على الطاقة في أوراسيا، التي تمثّل منغوليا إحدى دولها. من هنا، تتنافس روسيا، الولايات المتحدة والصين، على تثبيت جدارتها في دخول لعبة السيطرة على هذه الدولة، التي تغادر غشاء الدول غير النامية.
وتمثّل منغوليا «الحديقة الخلفية» لروسيا، التي بطبيعة الحال تحتاج إلى قليل من الاعتناء حتى تعود لموسكو بثمارها. تقدّر حجم الاستثمارات الروسية في منغوليا على صعيد سكك الحديد وشركات الحديد والذهب بنحو 49 في المئة. وأسّس الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين مجموعة صناعية تهدف إلى دعم أسهم الشركات الروسية المستثمرة، ما أعطاه مفاتيح التحكم واللعب في الاقتصاد المنغولي.
وزار الرئيس المنغولي، نامبارين انخبايار، موسكو الشهر الماضي لمناقشة إمكان تعاون مستقبلي نووي. وأعلن الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف أن العلاقات الثنائية التجارية ستزداد قريباً بقيمة مليار دولار، لتكون روسيا الشريك التجاري الثاني لمنغوليا بعد الصين. وقد تصبح منغوليا بمثابة «قمر صناعي» اقتصادي للتمدد الروسي البوتيني.
صينياً، لا يزال التاريخ يعبث بأداء الثقة المنغولية في الصين. ففي وقت يرى المنغوليون أنهم من أقدم إثنيات آسيا، يراهم الصينيون أقلية إثنية وجزءاً من امبراطوريتهم الوسطى. إلاّ أن العداوة التي رافقت علاقة البلدين حتى الثمانينيات من القرن الماضي، تحوّلت إلى نوع من ترابط تجاري أساسي مع تغيّر الرؤية المنغولية، التي رأت الصين قوة اقتصادية عظمى، وأدركت أهمية التعاون بين البلدين. إلاّ أن هذا الوعي المصطنع لم يُزِل حتى اليوم خوف المنغوليين من جشع الصين. لذا، فأي خطأ من بكين في تعاونها الاقتصادي مع أولان باتور، قد يحرّك القومية المنغولية التي قد تدمر العلاقة الثنائية بين البلدين.
لقبعة تكساس أيضاً مظلتها الخاصة والحديثة. وتشير التقارير الإعلامية الصادرة من شبه القارة الآسيوية الجنوبية إلى نية أميركية في تجاوز هدف إخضاع أفغانستان للسيطرة، ولعب دور محوري في المنطقة الأوراسية الواسعة. ويمكن القول إن نشر القوات الأميركية في أفغانستان عام 2001 كان وفقاً لسياسة مدروسة لتأسيس قواعد أمامية في تقاطع طرق ثلاث مناطق رئيسية، الشرق الأوسط، آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وذلك لكونها منطقة غنية بالطاقة، إضافة إلى موقعها الجغرافي بين الصين والهند وروسيا.
وكنتيجة، بدأت الولايات المتحدة بالتغلغل في منغوليا، إلاّ أنه لا يزال دورها بطيئاً بالمقارنة مع روسيا والصين. لذا يرى بعض المحللين أنه يتوجب على واشنطن تشجيع زيادة استثماراتها التجارية مع منغوليا، التي وصلت إلى نحو 120 مليون دولار في عام 2007، وبالتالي محاولة الدفع إلى أبعد من اتفاقية التجارة الاستثمارية الموقعة في عام 2004، والبدء بمفاوضات تهدف إلى التوقيع على اتفاقية للتجارة الحرة.
ويتطلب تعزيز العلاقات بين البلدين، سعي الولايات المتحدة إلى تطوير مشاريع البنى التحتية في منغوليا بقيمة مالية تتعدّى 285 مليون دولار. ومن البديهي القول إن زيادة حجم الاستثمارات الغربية ستساهم في انتشال حكومة منغوليا من مشكلاتها المتجذرة، وخصوصاً التضخم.
أيضاً، قد تلجأ واشنطن إلى قيادة حملة عالمية ضد استراتيجية الكرملين في هذا المجال، وإدانة الاحتكار الاقتصادي لموسكو في منغوليا. عدا عن ذلك، يمكن لدولة العم سام الدفع باتجاه مشروع الشراكة الديموقراطية بين آسيا والمحيط الهادئ، التي اقترحها بوش في عام 2007، وتسعى إلى توحيد الدول الآسيوية الحرة لدعم القيم الديموقراطية. فتدرك واشنطن أنه يجب على منغوليا أن تشعر أنها ملتزمة بربط الدول الديموقراطية في المنطقة ببعضها، وفق اهتمامات مشتركة اقتصادية واستراتيجية.
ويمكن للبلدين تعميق تعاونهما الأمني، الذي يتضمن تدريبات لحفظ السلام. إذ إنه حتى من دون وجود علاقة أمنية رسمية مع واشنطن، إلاّ أن منغوليا أنشأت مركزاً تدريبياً مختصاً بعمليات حفظ السلام، وأرسلت نحو 200 عنصر إلى العراق في إطار مشاركتها في الحرب على الإرهابربما تراهن واشنطن على الخلاف بين موسكو وبكين، إلاّ أن العلاقات الاقتصادية الاستراتيجية التي تجمع هذين البلدين قد تكون أقوى من سعي كليهما إلى التفوق على الآخر.
يمكن الجزم بأن منغوليا هي إحدى دول الصراع بين روسيا والصين والولايات المتحدة، إلاّ أنها في الوقت نفسه ليست إلاّ مقدمة، وخصوصاً أنها تسعى إلى الاستفادة من الأوراق الثلاث، إذ تدرك أن الصراع الحقيقي سيمتد إلى الدول المطلة على بحر قزوين، أذربيجان وإيران وتركمانستان وكازاخستان وقرغيزستان. إلاّ أنها لم تلتزم بالقول الصيني: «محاولة إيجاد غرفة للبقاء بين وزنين ثقيلين مهمة صعبة». فكيف بها بين ثلاثة.


جذور تاريخيّة لصراع معاصر الخلاف الانتخابي، وإن كان حديث العهد، إلا أن له جذوراً تاريخيّة. فبعد الاستقلال عن الصين في عام 1911، أصبحت منغوليا الدولة الشيوعية الثانيّة في العالم بعد الاتحاد السوفياتي في عام 1924، وخضعت لسلطة موسكو سبعين عاماً.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، اختبرت منغوليا أول انتخابات تشريعية، أسفرت عن احتفاظ حزب الشعب المنغولي الثوري الشيوعي بالحكم. إلاّ أنهم هزموا في عام 1996 لمصلحة الحزب الديموقراطي المعارض، ليعودوا إلى السلطة في عام 2000. وبعد أربع سنوات، تعادل الديموقراطيون والشيوعيون السابقون، فكان الخيار تأليف حكومة ائتلافية رافقه شلل سياسي.
خلال حملاتهما الانتخابية، اعتمد الحزب المنغولي الشيوعي الحاكم والحزب الديموقراطي، على التسويق لكيفية الاستفادة من كميات الذهب والنحاس والفحم المكتشفة حديثاً في البلاد، إلاّ أنهما اختلفا على الوسيلة. فالشيوعيون يريدون أن تكون غالبية الحصص الاستثمارية تحت سيطرة الدولة، فيما يرى الديموقراطيون أنه في ظل التضخّم من الأفضل أن يتولى القطاع الخاص إدارة غالبية الاستثمارات. إذ تتطلع المعارضة إلى عقود مربحة مع مستثمرين أجانب، وخصوصاً أنهم يرون أن الاتفاقيات السابقة التي أبرمت في العصور السوفياتية استغلت مخزون الطاقة في منغوليا نتيجة افتقارها للتكنولوجيا اللازمة لاستخراج المعادن.
لم يستطع البرلمان تعديل القانون المتعلق بالمعادن، الذي لم يسمح للدولة بعقد اتفاقيات مع شركات تعدين عالمية لزيادة إيداعات المعادن في صحراء غوبي. ويتيح القانون الحالي للدولة الحصول على نسبة 50 في المئة من الأرباح إذا أتيح للدولة استخراج هذه المعادن، ويسعى التعديل إلى منحها نسبة 51 في المئة، الأمر الذي يرفضه الديموقراطيون.
رسم التاريخ هذه النتيجة. يعتمد الحزب الحاكم في منغوليا على الأيديولوجية الشيوعية في إدارة البلاد، وهي ملكية الدولة مع رغبته في الانفتاح على الغرب، في وقت تسعى المعارضة إلى التفلّت من هذا الماضي.