وائل عبد الفتاحقوة العائلة أكبر من قوة المجتمع. هذه حقيقة تتأكد كل يوم في مصر. من المشاجرات اليومية، إلى التسلح بعصابات بلطجية، وحتى وراثة الرئاسة. العائلة تحكم وتسيطر وتقتل. ولأن الدولة تتبخر في سخونة الصراعات، فإن الرابطة بين المجموعات الصغيرة هي الملجأ الأخير للباحث عن حقه، لكي لا يصبح فريسة سهلة في حرب العصابات

ميليشيات العائلات سر الظاهرة لم يدفن مع «البربري»، الرجل الذي قرر أن يمنع مرور خط مياه الشرب إلى بقية بيوت «عزبة الكلاف». البربري لم يكن غنيّاً ولا قويّاً قبل سنوات قليلة. لكنه، حسب روايات من شهود خافوا من إعلان أنفسهم، تحوّل وأصبح كبيراً في المنطقة بعد صولات وجولات في تجارة الأسلحة والمخدرات.
ربما فسّر هذا كمّ الأسلحة المستخدمة في حرب الانتقام لقتل البربري، التي تمت بطريقة سينمائية: كتيبة إعدام من العزبة اقتحمت بيته وأفرغت في جسده ٧٠ طلقة.
الرد كان على طريقة الحروب الأهلية. فرقة انتقام من أهالي القتيل قرّرت تدمير العزبة. استخدمت ترسانة سلاح كاملة: بنادق آلية و١٠٠٠ طلقة وأسطوانات غاز وأسلحة بيضاء وعصي. ١٥ بيتاً من بيوت القرية أحرقت والقتلى حتى الآن ١٢، وهم نسبة كبيرة مقارنة بسكان العزبة (٩٠٠). غالبية القتلى من الأطفال. أي إنها لم تكن حرباً بين طرفين ولم يُقتل المقاتلون. لكن هناك عائلة تمتلك القوة والأرض والسلاح قررت الانتقام لكبيرها.
هذه العائلة لم تفكر أنها تعيش في دولة. النظام بكل أجهزته الأمنية والسياسية كان غائباً عن تفكير صاحب القرار ومنفذي العمليات. وكما كان كبير العائلة يتصرف تحت حماية يشعر بها أهالي العزبة ولا يعرفون مصدرها بشكل واضح، قرر الابن أن يتصرف بالطريقة نفسها تقريباً، كما لو كانت الدولة غائبة، أو أنه وعائلته هم الدولة في هذا المكان.
من كان يحمي البربري؟ وأين غابت ترسانة السلاح عن أعين أجهزة الأمن؟ وكيف تكونت ميليشيات عائلية بهذه الروح الانتقامية والقوة المفرطة في عزبة ليست في أدغال الصعيد، بل تبعد عن العاصمة أقل من ٥٠ كيلومتراً؟ لم يكن البربري يتخيّل أن يخرج أهل القرية عن طاعته. إنه حاكم المنطقة غير المعلن. ميليشياته تبث الرعب (قيل إنها وصلت إلى 150 مقاتلاً) وعائلته تفرض نفوذها الخفي الذي يخرس الألسنة ويجبر الأهالي على السير إلى جوار الحائط. قيل الكثير عن قوة البربري وسطوته وعن علاقته القوية برجال الشرطة.
لا أحد يستطيع التأكيد أو النفي، لكن لا أحد أيضاً من الداخلية أصدر بياناً عن تحقيق جنائي مع ضباط الأمن المسؤولين عن المنطقة. هل كانوا يعرفون بترسانة السلاح لدى عائلة البربري؟ الأسئلة بلا إجابات حتى الآن، وهو ما يحوّل ميليشيا البربري إلى أسطورة جديدة يتداولها الناس بمزيج من الرهبة والخوف. والبربري ليس الأول. وبالطبع لن يكون الأخير.
هو ثالث زعيم ميليشيا عائلية يهز مصر كلها في السنوات الخمس الأخيرة.
الأول كان عزت حنفي في النخيلة (محافظة أسيوط في الصعيد) والثاني نوفل سعد ربيع أو «خُط الصعيد الجديد» في حمرادوم في محافظة قنا.
عزت حنفي يقود ميليشيا عائلية حوّلت السكان كلهم إلى عصابة زراعة وتجارة المخدرات. هو أدى أدواراً في مساعدة الأمن للقضاء على الإرهابيين، لكنه في المقابل تمتع بحماية أقام في ظلها دولته التي تحرسها ترسانة مكونة من ٧ مدافع طراز «غرينوف» وبنادق آلية ومسدسات سريعة الطلقات وملايين الذخيرة الحية.
سقوط النخيلة كشف عن ترسانات الأسلحة السرية في الصعيد. وكشف سقوط نوفل سعد الدين ربيع عن ترسانة أخرى ظلت قوات الأمن تحاصرها أياماً وليالي طويلة قبل أن يصطاد أحد القناصين «الخُط الجديد» (الخُط القديم ظهر قبل الثورة، وكان قاطع طريق صعب الاصطياد، وانتشرت أسطورته فترات طويلة).
المرعب هنا أن السلاح في يد ميليشيا العائلات يتحوّل إلى ورقة سياسية تمنع تغيير الأوضاع الراهنة، فالميليشيات جاهزة للسيطرة. ومقابلها تتكون ميليشيات تحاول الحفاظ على التوازن. سلاح الميليشيات العائلية سيكون الحل الأخير أو المتاح أمام انهيار مؤسسات السيطرة والاحتواء.
ظاهرة تستحق التأمل، وخصوصاً أن هناك ما يجمع بين الحوادث الثلاث، وهي أن وراء كل ميليشيا زعيماً. من المفترض أن يكون شخصاً عادياً، لكنه فجأة يتحوّل إلى «زعيم مافيا» يحكم ويتحكم ويدير عصابات ويؤدي أدواراً في السيطرة على منطقته. هذا الدور يقال إنه بتكليف من الأجهزة الأمنية. ولا رد من الأجهزة سوى تصريحات بالنفي لا يصدقها الناس غالباً.
البربري لم يصل إلى مستوي عزت حنفي أو نوفل سعد، لكنه تصرّف مثلهم، أو كان في طريقه لفرض سيطرته على المنطقة. وهذا لا يكون إلا مكافأة. السؤال هو على ماذا؟ على تأمين المنطقة أو على إرشاد المباحث عن أسلحة ومخدرات. أخطر الأدوار تكون عادة في «تقفيل» الانتخابات وسرقة الصناديق أو تخويف الخصوم وأداء دور سرّي في تهديد القضاة، بعيداً عن الشرطة المسؤولة.
روى قاضٍ أنه أثناء انتخابات 2005، وبعدما انتهى التصويت، وُضع الصندوق في سيارة الشرطة وركب معه متوجهاً لإعلان النتيجة. فجأة قطعت عليه الطريق ميليشيا مسلحة من عائلة أحد المرشحين. طلبوا منه تسليم الصندوق. لم ينقذ القاضي تدخّل الشرطة، بل ظهور ميليشيا العائلة المنافسة.
كيف تكونت هذه الميليشيات؟ هل بعيداً عن أعين الدولة؟أم أن الدولة لعبت بها لكنها خرجت عن السيطرة؟ أم أن العائلات كبرت في ظل حكم العائلات؟

عصابات الكبار

ظاهرة العصابات في مصر باتت لافتة. لم تعد مقتصرة على كبار حاكمين. انتقلت إلى مستويات فرديّة تتّخذ من الطبقة الحاكمة مثالاً أعلى، وتحاكي تصرفاتها في نطاق ضيّق، نطاق النادي والشارع
حاول مرتضى منصور دخول نادي الزمالك لكنه فوجئ بالحرب. مجموعة بلطجية يتصدّون له أمام باب النادي بأسلحة بيضاء وعصيّ غليظة وصواعق كهربائية، حتى إنهم أحاطوا مبنى النادي بأسلاك كهربائية. النادي في قلب حي المهندسين. والبلطجية يتبعون رئيس النادي وهو رجل أعمال طيّب، لكنه قرر استخدام أسلوب العصر.
مرتضى منصور رائد في هذا الأسلوب. هو قاض سابق دخل مجال الشهرة بعدما اتهمه النجم عادل إمام بطلب رشوة لتبرئة ذمته من قضية أقامها ضده المحامون بسبب فيلم «الأفوكاتو». بعدها استقال وانتقل إلى اللعب في السياسة والرياضة، إضافة طبعاً إلى المحاماة التي اشتهر فيها. إنه «ملك تخليص القضايا». شطارته بعيدة عن القانون. وفي السياسة، أدى أدواراً مهمّة لمصلحة كبار في الدولة. ترشّح لمجلس الشعب وفاز على مرشح المعارضة الذي لم يستطع الوقوف أمام عصابات بلطجية أنهت المنافسة. وصنع حوله سياجاً من الخوف انتقل معه إلى نادي الزمالك حيث تولّى منصب الرئيس. المفارقة أنه صاحب حادث شهير، حين رفع الحذاء في منصة يجلس فيها مندوب الرئيس خلال إحدى نهائيات كأس مصر اعتراضاً على فوز النادي «الأهلي». يومها شتم «الأهلي» وجمهوره وكانت هذه هي بداية سقوطه. أوّلاً من مجلس الشعب. وبعد نزع حصانته، بدأت الضربات بتنحيته من رئاسة الزمالك. ودفعته عصبيته إلى الاعتداء على رئيس مجلس الدولة وعوقب بالحبس عاماً. عدّها مؤامرة من كبار حول الرئيس، وأصبح أحد نجوم الاستعراضات التلفزيونية. يستضيفونه فيشتم الجميع إلّا الرئيس طبعاً. وخرج من السجن بطلاً، وبعدما حصل على حكم بالعودة إلى عضوية نادي الزمالك. فوجئ بأن السحر ينقلب على الساحر وتمنعه عصابة بلطجية من الدخول.
حدث هذا في الأسبوع نفسه الذي شُغلت فيه الأوساط الرياضية بحكاية اللاعب هاني سعيد (أحد نجوم المنتخب المصري) الذي وقّع عقداً ينتقل فيه من ناديه (الإسماعيلي) إلى الزمالك. ولأنه يثق بصديقه محمد عبد المنصف (حارس الزمالك والمنتخب أيضاً) أكثر من النادي، ترك العقود بحوزته. لكنه، وبشكل مفاجئ، أراد التخلص من الصفقة. وروى حارس الزمالك أن عصابة بلطجية خرجت عليه وقطعت الطريق، وحطّمت سيارته وضربته وسرقت العقود. لماذا؟ لأن هاني سعيد قرر أن يوقع للأهلي الذي عرض سعراً أكبر (٨ ملايين جنيه أي مليون ونصف مليون دولار). العجيب هنا أن «الأهلي» هو قلعة القيم والمبادئ، وفكرة الخطف وعصابات البلطجة كانت بعيدة عنه.
الحكايتان في مجال بعيد عن السياسة لكنهما تكشفان عن توغل ظاهرة البلطجة والعصابات السرية التي تحسم الخلافات وتفرض حضور القادر على دفع تكاليفها. ويتحدّثون في أوساط النخبة السياسية عن «عصابة لتصفية أصحاب اللسان الطويل». أحد خبراء الحكايات الخفية روى أنها عصابة حقيقية يديرها سرّاً ومباشرة شخص كبير في السلطة. كبير بالمعنى الموجود في السنوات الأخيرة. قريب جداً من القصور التي تحكم مصر. لديه ألف يد تطول كل كبيرة وصغيرة. لا مكان بعيداً عن سطوته. ولا متعة مستحيلة التحقيق. يمتلك السلطة والثروة. وكان ينقصه السلاح فاكتشف موضوع العصابة التي يمكنها تصفية الخصوم وتأديب المعارضين. ويمكنها أيضاً ضمان السكوت عن فضائح يراها أهل الليل والسهر وهواة الاقتراب من الكبار.
العصابة هي الستار الحديدي الذي يعمي الأبصار عن فضائح الكبير وغزواته الليلية. قد تكون العصابة حكاية من اختراع خبير الأسرار، أو شائعة منتشرة في كواليس السلطة. ويريد صاحب النفوذ بانتشارها بث الرعب في قلب من يفكر في الاقتراب أو كشف المستور.
لكن الحقيقة أن السياسة في مصر لم تعد بعيدة عن مناخ حرب العصابات. وعصابة الكبير ليست موجّهة فقط للمعارضين، لكنها جاهزة لتصفيات على مستوى ضيّق في النخبة. يمكنها أن تؤدّب من تجاوز دوره على طريقة المافيا.
وما يحدث في مصر ليس بعيداً عن أجواء المافيا. العائلة هي نواة التنظيم الكبير. ليس المهم أن تكون العائلة رابطة دم أو زواجاً فقط، وهو ما حدث في نظام حسني مبارك إذ تحوّلت النخبة إلى عائلة بفعل المصالح.
هذه المجموعة لا تمتلك أدوات جديدة غير التي تعلّمتها عبر نصف قرن. وليس أمام هذه المجموعة، وهي في لحظة ضعف، لحظة دفاع أخير عن الكرسي، إلا أن تستخدم أي أسلوب حتى القتل أو التصفية المعنوية أو الجسدية. عقلهم مرعوب من فكرة التغيير. عقل موظفين يعيشون أمراض الشيخوخة. عقل بُرمج على خدمة السلطة ولا يمكن أن يبدع أو يفكر خارج برنامج الخدمة الدائمة للجالس على العرش.
ليس أمام هذه المجموعة إلا التضامن للحفاظ على شبكات الفساد. هناك في الحكومة وزراء ليسوا فوق مستوى الشبهات. وفي مواقع المسؤولية، تحوّل الفساد إلى قانون من الموظف الكبير إلى الصغير. قانون تحميه أخلاق الحفاظ على الأسرار وتوريط الجميع في العمليات القذرة. وهو أسلوب شهير في المافيا.

حكم الشلّة لكن الهمسات عادت هذا الأسبوع ببشارة النائب الذي لا بد أنه سيكون «خليفة مبارك» الذي اختارته أجهزة سرية وتريد أن تقدمه للمجتمع. من؟ السؤال كان حاراً متشوقاً والأسرار تكشفت بالتدرج: أولاً، إنه شخصية عسكرية، ومن سلاح الطيران، صديق لمبارك. لعبة الألغاز راجت أثناء معركة أخرى عن مصير الملياردير أحمد عز. وأخيراً كشف عن الاسم: الفريق أحمد شفيق، وزير الطيران المدني.
اختفى الاسم سريعاً، ربما بعد الكشف عنه بساعات قليلة، وربما كان طرحه نوعاً من الحرق لاسم مرشح بالفعل، أو أن طرحه كان رسالة إلى داخل القصر، بأن الأمور لا تزال بيد مبارك وأجهزة قديمة يهمها أن يظل الرئيس من المؤسسة العسكرية.
والمرشح يجمع بين صفتين: أنه من المؤسسة، وأنه صديق لمبارك وزميله في سلاح الطيران، أي أنه نموذج لم يتوقعه أحد لما يمكن أن نسميه «حكم الشلة». وهو التعبير المناسب لحكم مبارك. استخدمته دراسات غربية لوصف نظام الحكم بعد قيام الثورة. جمال عبد الناصر كان يحب فكرة أهل الثقة. وهي شلة تعلمها عبد الناصر من محمد علي، الذي اختار مجموعة من عائلات قريبة منه ليمتلكوا الأراضي والإقطاعيات وليكونوا طبقة مرتبطة به تحميه ويحميها. شلة عبد الناصر كانت من الثوار، ومعهم وبينهم عائلات كانت حاكمة قبل الثورة. عبد الناصر قرر إنهاء حكم العائلات الملكية، وقال إنها كانت «16 عائلة فقط». كان هدفه كسر احتكارها للسلطة والثروة. فكوّن عائلة من الجنرالات الثوار. العائلة سيطرت على البلد تحت قيادة الأب الكبير. شلة مؤمنة (أو تدعي الإيمان) بمبادئ الثورة إلى جانب المصلحة. الأمر تغيّر إلى حد ما مع أنور السادات، الذي اختار شلة جديدة غالبية أفرادها من عائلات المال القديمة التي عملت تحت غطاء الثورة وفي خطوطها الفرعية (عائلات عثمان وسيد مرعي وعبد الغفار... وغيرها). السادات فتح مع عائلات المال خطوط مصاهرة منحت النفوذ للعائلات وخطوط الأمان والسيطرة للرئيس. هناك عائلات استمرت عبر العصور عبر قانون الحفاظ على القنوات السرية بين المال والسياسة. عائلات عابرة للعصور (مثل عائلة غالي الذي كان أحد نجومها يتصور أن الوزراء يتخرجون من كليات بعينها) وأخرى متعددة الانتماءات (عائلة محيي الدين تضم اشتراكيين وليبراليين حكوميين ومعارضة. وأباظة نصفهم «وفد» والنصف الآخر حكومة).
شلة مبارك مميزة، وأهم مزاياها أنها لا تلتف حول مشروع كبير، مشروعها الوحيد هو المصلحة ولا صوت يعلو فوق صوت المصلحة.