أزمة الأقباط في مصر ليست جديدة، فعمرها من عمر الجمهوريّة. إلّا أنّ تسارع الحوادث الأمنيّة التي يكون الطرف المسيحي رئيسيّاً فيها، يوحي أنّ هناك «أيادي خفيّة» تحرّك فتنة يتوجّس البعض من أن تكون مدبَّرة من نظام متعَب، يحاول نقل الصراع الحقيقي إلى المكان الأضعف في المجتمع: الدين
القاهرة ـــ وائل عبد الفتاح

«فتنة في المنية»؛ هذا هو العنوان. أمّا التفاصيل فهي ليست جديدة تماماً: صدامات بين مسلمين ومسيحيّين ينتج منها قتيل و٤ جرحى في صراع على أرض محيطة بدير «أبو فنا» في قرية تابعة لمدينة ملوي في محافظة المنية في صعيد مصر.
إدارة الدير تريد أن تبني سوراً حول أرضه، لكن البدو (هكذا يسمّون العرب هناك) يرون أنّ هذا يمثّل اعتداءً على أرضهم المحيطة بالدير. تكرّرت المناوشات مرّات عدّة، وتعرّض الدير للسرقة، وهو ما كان سبباً في طلب بناء سور حول أرض الدير. وبعد الخوف من انفجار فتنة كبيرة، وافق المحافظ الأسبق، على منح ترخيص ببناء السور منذ ٦ أشهر. وعندما بدأ بالبناء، هجمت فرق من البدو تدافع عن أرضها.
هذه هي الحكاية المتَّفَق عليها من كل الأطراف. لكن بقيّة التفاصيل تتباين إلى حدّ مذهل، بدءاً من الرجل المسلم الذي قُتل. فخليل محمد، وعمره ٣٩ سنة، قالت أجهزة الأمن والطرف المسلم إنه ذهب ضحية تبادل الرصاص من الطرف المسيحي. في المقابل، نشرت مواقع إلكترونيّة تابعة لأقباط المهجر أنه مقتول برصاص أبناء عمومته في صراع بعيد عن قضيّة أرض الدير.
الروايات المسلمة تحدّثت عن أنّ النيران مصدرها أسلحة أطلقها الرهبان، وهي حكاية خيالية، فالرهبان غير مسلحين، ولا مدربين على استخدام الأسلحة، ويعيشون حياة مسالمة. محامي الدير، ماجد حنا، رفض أن يكون القتل قد نتج من مقاومة الرهبان، مؤكداً أنهم «لا يملكون أسلحة»، بينما تتوقّع مصادر توجيه تهمة قتل الضحية المسلمة للمقاول الذي أشرف على بناء السور، وهو مسيحي يُدعى رفعت فوزي، ومقبوض عليه مع اثنين من عمّاله المسيحيّين بتهمة إطلاق النار على القتيل، بينما أُلقي القبض على ٥ مسلمين من فرقة الهجوم على الدير.
لم يصدر بيان عن الأمن المصري لساعات طويلة بعد الحادثة، واقتصر ردّ الفعل الرسمي على تصريح قصير للمحافظ اللواء أحمد ضياء الدين وصف فيه الحادث بأنّه «خلاف بين جارين».
والمحافظ هو المسؤول السابق في وزارة الداخلية عن الشؤون القانونية ومعتاد على تصريحات من هذا النوع. لكن هذه المرة التصريحات ليست كافية، وخصوصاً أنّ الروايات الأسطورية تناقلها الأهالي ومواقع إلكترونيّة متطرّفة تابعة للأقباط في الخارج تحدّثت عن اقتحامات للدير وحرق مبانٍ في الكنيسة الملحقة وعن استغاثات من رهبان محاصَرين. في الطرف الآخر، انتشرت تفاصيل عن ترسانة الأسلحة في الدير وعن «جيش الرهبان».
النائب عن المنية، بهاء عطية، وهو من جماعة «الإخوان المسلمين»، حمّل الأجهزة الأمنية مسؤولية التقصير، «لأنها كانت تعلم مسبقاً بوجود مشاحنات بين الطرفين، ولم تفعل شيئاً».
ومعروف أنّ الصراع بين الدير والمزارعين البدو الذين يمتلكون أرضاً محيطة، هو قديم، وتكرّر الهجوم المسلَّح في المرة الأخيرة قبل ٦ أشهر حين حُرقت أماكن إقامة الرهبان.
الخلاف على قطعة أرض، هو أكبر أسباب الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في الصعيد، وهو، إلى جانب «خطف المسيحيّات»، قنابل سهلة الانفجار في أيّ وقت، ويمكن استخدامها لزرع القلق عندما تريد الأصابع الخفية أن تتحرّك.
نظرية «الأصابع الخفية» هي الأكثر رواجاً اليوم بعدما انفجرت ٣ حوادث أبطالها كلهم من الأقباط في أقلّ من ٤ أيام. هل التوقيت صدفة؟ وما العلاقة بين فرقة القتل التي ارتكبت مذبحة في محل مجوهرات حيّ الزيتون (شرق القاهرة)، وعصابة السرقة التي سطت على محل مجوهرات في الإسكندرية وفتنة الدير؟
الأمن لا يريد الربط بين حادثتي القاهرة والإسكندرية، وخرج تقرير الطب الشرعي أمس بتفسير أنّ القتلة محترفون، وسرّبت الأجهزة الأمنية خبراً عن أنّها قبضت على بعض المشتبه بهم وأنّها اقتربت من الجناة الحقيقيّين، بحسب ما صرح مصدر أمني. المصدر أكّد أنّ دافع «حادثة الإسكندرية» هو السرقة فحسب وأنها «نشاط إجرامي لا يستهدف فئة بعينها».
يبقى التوقيت هو اللغز الذي يجعل تزامن العمليات الثلاث مؤامرة لتحريك فتيل الفتنة وزرع الرعب بين صفوف المصريّين. المصادر الرسمية ليست بعيدة عن التفسير، وترى أنّ عصابة الإسكندرية استغلّت أجواء مذبحة الزيتون لتنفيذ العملية ولصقها بجماعات سياسية. بكلام آخر، هذه المصادر لم تنكر فكرة «المؤامرة» وتلصقها بعصابة سطو عادية، بينما ترى أصوات الأوساط السياسية أنّ الغرض الأساسي هو نقل انتباه المصريّين من ملفات الغلاء وخلافة حسني مبارك والاستمرار في الاستبداد بعد تمديد قانون الطوارئ إلى ملفّات أخرى تثير الرعب في مناطق يعلن فيها الجميع حاجتهم إلى لأمن والنظام. وبحسب هذا التفسير، تكون «الأصابع الخفية»، النظام نفسه.
غير أنّ وجهة نظر أخرى ترى، من جهتها، أنّ صاحب المصلحة يريد زعزعة الثقة في الأمن والإيحاء أنّ النظام غير مسيطِر. سيناريو يلصق تهمة «الأصابع الخفيّة» بـ«الإخوان المسلمين» أو ربما «عناصر خارجية».
التظاهرات التي خرجت من الكنيسة في المنية رأت أنّ كل ما يجري بحقّ أبناء الطائفة، هو «اضطهاد للأقباط»، وهو تفسير آخر للارتباط بين فتنة الدير ورعب المجوهرات. بغضّ النظر عن تعدُّد التفسيرات، فالأكيد أنّ ما جرى ليس سوى عرض من أعراض الاحتقان في مصر، يتحوّل بين لحظة وأخرى إلى حريق يفوق حريق القاهرة في ١٩٥٢.