strong>الانقسامات داخل الأحزاب عموماً، إن بقيت بحدود، تظلّ سمة مشتركة للحياة الداخليّة لهذه التشكيلات. غير أنّ الأحزاب الكرديّة التركيّة، تبدو كأنها ترسّخ مبدأ الانشطارات الكبيرة في صفوفها، كمبدأ عام. «لوثة» لا تقتصر على حزب «العمّال الكردستاني» بل تطال صفوف الحزب الشرعي لأكراد تركيا «المجتمع الديموقراطي»
أرنست خوري
إنّ صراع الأجنحة داخل حزب العمّال الكردستاني بات شبه حقيقة، لا يصرّ على إنكارها حتّى قياديّو هذا الحزب. لكنّ جديد الساحة الكرديّة التركيّة، هو التباين العمودي الذي يبدو أنّه يزداد حدّة داخل صفوف «المجتمع الديموقراطي»، بين «صقور» و«حمائم». بكلام آخر، بين متمسّكين بنهج «العمّال الكردستاني» وإرثه، وأولئك الداعين إلى أقصى حدّ من البراغماتيّة والاعتدال لتحقيق أكبر قدر من المكاسب للأكراد من ضمن العمليّة السياسيّة، وخارج أي إطار كفاحي مسلَّح، وبعيداً من أي دعوة لحكم ذاتي أو استقلالي.
طبعاً، وسائل الإعلام التركية، إسلاميّة كانت أم علمانيّة، تنبهر ما إن يتسرّب خبر عن انقسام يغزو صفوف أعدائها. كطفل وصلت إلى أيديه هديّة طال انتظارها، تأخذ الأقلام تلك التسريبات وتجعل منها قصّة كبيرة على صفحاتها الأولى، لتقول للعالم إنّ التعاطي الرسمي مع أكراد تركيا، على اعتبار أنهم مشكوك دوماً بوطنيّتهم، أمر مبرَّر، وأنّ الدليل هو جنوح جزء كبير من قياداتهم نحو التمثّل بـ«إرهاب» مقاتلي عبد الله أوجلان.
ولأنّ «المجتمع الديموقراطي» حزب شرعي (حتّى إشعار آخر، بما أنه ينتظر حكم المحكمة الدستوريّة الذي قد يحلّه كما حصل مع سلفه حزب الشعب الديموقراطي)، فإنّ الأخبار التي تخرج من داخل أطره التنظيميّة تكون أكثر مصداقيّة من التسريبات عن الأحزاب السريّة.
وقد طرأت أخيراً مجموعة من التطوّرات الداخليّة في هذا الحزب (تأسّس في عام 2005)، من شأنها إضفاء شيء من الواقعيّة على التقارير التي توردها الصحف التركية من وقت لآخر، عن «صراع الأجنحة» الذي يعصف بين معسكري الحزب. آخر تلك الأحداث، كانت استقالة الرئيس السابق للحزب أحمد تورك الأسبوع الماضي من منصبه في رئاسة التكتّل البرلماني.
لكن قبل الوصول إلى الاستقالة، كانت الخلافات التنظيمية والسياسية بين المتمسّكين بنهج أوجلان وحزبه، والمنادين بـ«اعتدال واقعي»، انطلقت منذ مرحلة التحضيرات للانتخابات التشريعيّة في تمّوز الماضي. حينها، اتّخذ الصراع بين الطرفين عنوان شكل المشاركة في الانتخابات.
فنظراً إلى أنّ قانون الانتخابات لا يسمح لأي حزب بالدخول إلى البرلمان إلا إذا تخطّى عتبة الـ10 في المئة من أصوات الناخبين، انقسم قياديّو «المجتمع الديموقراطي» بين أن يشاركوا بترشيحات حزبيّة ويواجهوا بالتالي شبه حتميّة أن يُحرموا من الدخول إلى الندوة النيابيّة، وهو ما كان يريده أنصار «العمّال الكردستاني»، وبين أن يشارك المرشّحون الأكراد كمستقلّين لضمان نيلهم 20 مقعداً، وهو الرقم الذي يسمح لمجموعة ما بتأليف تجمّع برلماني.
حُسم القرار في النهاية لصالح الخيار الثاني. «المتشدّدون» ساروا في خيار الغالبيّة الحزبيّة، غير أنهم كانوا يتوقّعون أن ينال مرشّحوهم على الأقل 30 مقعداً، وإذ بهم لا يحصدون سوى 20.
وبالعودة إلى تورك، فالرجل كان قبل انتخابات 2007، رئيساً للحزب، وما لبث أن اضطرّ إلى الاستقالة للتمكّن من الترشّح بصفة مستقلّ. انتُخب نور الدين دميرتاش الأكثر تشدّداً مكان أحمد تورك، الذي ترأس المجموعة البرلمانيّة للحزب.
في هذا الوقت، «اقترف» الرجل «خطأً تاريخيّاً» بنظر أنصاره الذين لا يزالون ينظرون إلى «العمّال الكردستاني» كحزبهم الأم. مدّ تورك يده وسلّم على رئيس الحزب القومي المتطرّف دولة بهشلي الذي يكاد يتباهى بآرائه العنصريّة ضدّ أكراد بلاده. وقع الحزب منذ تلك الحادثة بين مشكلتين: فالقوانين التركيّة تلزم رئيس تكتّل برلماني معيَّن أن يكون رئيس الحزب الذي ينتمي إليه، وفي الوقت نفسه، استمرّ تورك في «ارتكاب» الزلات كما يسمّيها «المتشدّدون».
فخلال زيارة قام بها الأخير إلى كردستان العراق فور انتخابه نائباً، أدلى بتصريح غريب، مفاده أنّ «نضال العمّال الكردستاني يضرّ بأكراد تركيا».
إزاء هذه المشكلات، توافق جناحا «المجتمع الديموقراطي» على حلّ توافقي، هو انتخاب رئيس «محايد» للحزب، فوقع الاختيار على رئيس بلدية ديار بكر، فرات أنلي. غير أنّ الرجل انسحب من السباق في اللحظات الأخيرة، ما أجبر الجميع على القبول بإعادة انتخاب دميرتاش في تشرين الأوّل 2007.
لكن، مرّة جديدة، مشكلات الأكراد لا تنتهي. فجأة، وجد دميرتاش نفسه أمام محاكمة أودت به إلى الزنزانة على خلفيّة تزويره أوراقاً للتهرّب من الخدمة العسكريّة. هكذا، اضطرّ تورك إلى الاستقالة من منصبه كرئيس للتكتّل البرلماني لحزبه، لكي لا يصبح رئيساً حكميّاً للحزب، وهو ما يرفضه بشدّة أنصار الجناح «المتشدّد» في «المجتمع الديموقراطي». ومن المرجّح أن يبقى الحزب من دون رئيس حتّى العشرين من تموز المقبل، موعد مؤتمره العام.
وفي السياق، تسابق المتحدّثون باسم التيّارين المتنافسين داخل الحزب على نفي وجود أيّة صراعات داخليّة كبيرة داخل حزبهم. فتورك والنائب «المتشدّد» حسيب كابلان سارعا إلى السخرية من التقارير التي تتحدّث عن وجود مثل تلك المعارك، واضعين التنافس الداخلي في إطار «اللعبة» الديموقراطيّة داخل أي تنظيم دون ـــ حزبي حتّى.
التحدّي الحالي هو أن يبقى «المجتمع الديموقراطي» موجوداً حتّى موعد مؤتمره المقبل، أي ألا يحظَّر قبل 20 تموز. ويبقى تورك المرشّح الأقوى لمنصب الرئاسة رغم «الفيتوات الكردستانيّة» ضدّه، غير أنّ وضعه الصحّي السيّئ قد يوقع الحزب في احتمال تمديد أزمة فراغ القيادة.
الصراع الداخلي محموم، رغم أنّ عبد الله أوجلان نفسه نطق بما من شأنه أن يقطع أيّ أمل بجناحي حزب «المجتمع الديموقراطي»، عندما قال لمحاميه في سجنه في جزيرة إمرلي الأسبوع الماضي ما حرفيّته «حزب المجتمع الديموقراطي غير فعّال وعاجز عن قيادة الحياة الديموقراطية» للأكراد.