وائل عبد الفتاحمراكز القوى. لم يستخدم هذا الوصف من قبل في السجالات الدائرة في شأن «الإخوان المسلمين»، أشهر التنظيمات المشغولة بوضع قواعد دينية للصراع السياسي وأقدمها. إلا أن الوصف تسرّب على استحياء منذ أسابيع، وبالتحديد في لحظة التأكّد من جدّية نظام الرئيس حسني مبارك في تنفيذ الحكم بحبس نائب المرشد العام خيرت الشاطر خمس سنوات. فكان لا بد من وراثة دور العقل المدبّر للجماعة، وهو ما تم وفق منطق السيطرة والاستيلاء من جانب الحرس القديم.
هذه التسمية من خيال الصحافة. لكنها الوحيدة المتاحة في ظل اعتماد التنظيم على السرية الكاملة. أوّلاً، لأنه محظور من وجهة نظر الأوراق الرسمية، وثانياً لأنه يعتمد على فكرة إخفاء الكوادر الفاعلة في العمل السري عن الأنظار. ولطالما وجد جهاز يعمل تحت الأرض مع وجود واجهات نشطة تمثّل الصورة التي تريدها الجماعة لنفسها.
الحرس القديم المقصود هنا هو الأمين العام محمود عزت والنائب الأوّل للمرشد محمد حبيب، وهما من جيل مختلف. الأوّل أقرب إلى المؤسسين، والثاني من جيل الوسط، يجمعهما التصور المحافظ للتنظيم الذي ولد في لحظات الصراع مع الاستعمار البريطاني والتخلّص من الدولة العثمانية قبل ٨٠ عاماً.
الصقور، كما يطلق عليهم صحافياً، أقاموا أيضاً انتخابات سرية لاختيار ثلاثة أعضاء بدلاً من قادة السجن، لكنها افتقدت الشفافية، وكانت أقرب إلى التعيين، كما قالت مذكرة قدمتها قيادات بارزة في مجلس شورى الجماعة، على حد تعبير صحيفة «المصري اليوم»، التي نقلت تشكيك المذكرة في اختيار الأعضاد الجدد، وهم رئيس الكتلة البرلمانية لـ«الأخوان» في مجلس الشعب سعد الكتاتني، ومحيي الدين حامد وسعد الحسيني الذي لم ينجح في انتخابات أمانة الكتلة البرلمانية.
وصلت الأزمة إلى الصحافة رغم أن قيادة «الإخوان» تصرّ على أنها «شأن داخلي»، والحقيقة أنها علامة (طال زمن إخفائها) من علامات تفكّك التنظيم الحديدي. تشير العلامة إلى دور شبيه جداً بالدور الذي أدّته مجموعة من موظّفي نظام جمال عبد الناصر، أرادوا الحفاظ على «هيراركية الدولة» بعد غياب الزعيم صاحب الكاريزما الحادة. حاولوا عزل خليفته أنور السادات، الذي بدا للوهلة الأولى ضعيفاً، إلاّ أنه انقلب على مراكز القوى وزجّهم في السجون.
التشابه كبير بين الجماعة والحزب الوطني الحاكم في هذه الأزمة وغيرها من أزمات ارتبطت بالخروج من تحت الأرض إلى العلن كتنظيم عادي من دون هالات أسطورية، تشبه الملائكة والرسل التي تكرّسها الأفلام الدينية لشخصيات الصحابة.
الضربات الأمنية وعزل «الأمراء» عن «كوادر الشارع»، ثم استعادة النظام للمواقع السياسية التي خطفها «الإخوان» في سنوات سابقة، كانت عوامل ضد تجديد الجماعة وتحديث أطرها، ما أدى إلى نشوء جيل جديد يشكو سيطرة الجيل القديم. هناك أيضاً شخصيات لامعة سياسياً لكنها مهمّشة في الجماعة، مثل عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح. الأول وجه سياسي مرن وشعبي، والثاني منفتح سياسياً، فهو صديق للشيوعيين، ويعلن في أكثر من حوار أنه لا يعترض على حرية الإلحاد، بل ويكتب في مجلات يصدرها فصيل الاشتراكيين الثوريين، وله مساحة عند شخصيات كثيرة من ألوان الطيف اليساري عموماً. كما أنه محافظ على قوته في المواجهة، ويملك كاريزما زعيم سياسي لا داعية ديني. لم يكن متحمّساً للقطيعة مع فكرة الدولة الحديثة تماماً، وله مسافة حرية شخصية بعيداً عن الإطار الحديدي للتنظيم المغلق.
أبو الفتوح مهمّش. إصلاح التنظيم وإعادة بنائه أيضاً مهمّشة. الواجهة وإدارة الماكينة اليومية في الجماعة تبدو اليوم في وضع حرج بعدما فقدت الحلفاء في المعارضة المصرية، وخطوط اتصالها مع النظام مع بدء مرحلة استعادة المواقع. كذلك أغلقت قنوات الاتصال الضيّقة مع الأميركيين التي انتشت بالفكرة القائلة إن المجاهد والجماعات الإسلامية، هما امتداد لـ«الإخوان». يؤكد ذلك تقرير لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، وهو ما يعني ببساطة أن «الإخوان» خرجوا نهائياً من قائمة بدلاء مبارك.