تحوّل مؤتمر «أزمة الغذاء»، الذي نظّمته منظمة الغذاء والزراعة «الفاو» في روما الأسبوع الماضي، وكان من المفترض أن يضمن لثلاثة أرباع البشرية «حقّها في الغذاء»، إلى مؤتمر «للدول المانحة» قُدّمت خلاله «مسكّنات» ماليّة، ليظهر في النهاية عدم قدرة منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة على التصدّي للمشاكل الدولية التي خلّفتها الرأسمالية المتوحشة
شهيرة سلّوم

قمّة «أزمة الغذاء» لم تفشل فقط، بل ثمّة ما هو أخطر؛ لقد ظهرت كأنّها «مسرح للتنظير الرأسمالي» فانهالت دعوات منظّميها إلى «مزيد من التحرير» ورفع الحواجز والضوابط، بمعنى آخر إلى مزيد من الفوضى. وذهب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، إلى حد القول إنّ «أحد أسباب تفاقم الأزمة الغذائية هو أدوات الضبط» التي تضعها الدول القومية وتحول دون وصول السلع الغذائية إلى الأسواق الداخلية بأسعار معقولة، لكنه أغفل أنّ «إلغاء الضوابط»، والجنوح نحو رسملة معمّقة هو ما فاقم الأزمة في الأصل لأنّه فوّض «وحوش الرأسمالية» (الشركات المتعددة الجنسيات) مزيداً من الاستغلال سعياً وراء الربح. وما يدعو إليه بان هو «توسيع نطاق التفويض» لمزيد من الاستغلال.
كما أنّ أي طرح عن «التحرير» لا بد أن يقابله موضوع السياسات الحمائية للمزارعين في الدول الأوروبية والأميركية، إذ كيف تُطالب ثلاثة أرباع البشرية بفتح أسواقها أمام السلع الزراعية الغربية «المدعومة» لمنافسة سلعها المحلية «غير المدعومة»، ولا يمكنها الدخول إلى أسواق تلك الدول لأنّها غير قادرة على المنافسة، فلا يكفي أنّها تتضوّر جوعاً بل عليها أن تستمر في «الاستهلاك».
ويُجيد المزارع في ولاية ويسكونسين، الناشط في حركة عالمية للفلاحين والمزارعين، الأميركي جيم كود مان، وصف الأزمة الغذائية، ويقول «المفاجئ في أزمة الغذاء أنّ الجميع يجدها مفاجئة. لقد أدركوا أخيراً، بعد كل هذه السنوات من دفع العولمة والبذور المعدّلة جينياً، بأنّه بدلاً من إطعام العالم خلقوا نظاماً غذائياً ترك مزيداً من العالم جائعين، لو فقط أمكنهم أن يسمعوا المزارعين بدل الشركات، لعلموا أنّ هذا ما سيحصل».
لقد جال هذا الناشط العالم كي يقول إنّ الحلول التي روّجت لها التكتلات الزراعية التجارية صُمّمت كي تزيد من أرباح الشركات، لا لمساعدة المزارعين أو لإطعام الناس.
والنظام الغذائي العالمي الحالي طوّرتها التكتلات التجارية الزراعية (الشركات عبر وطنية أميركية المنشأ) مثل: «كارغيل» و«موسانتو» و«وأي دي أم»، المتخصصة في السلع الغذائية الزراعية إنتاجاً وتسويقاً، بعدما فرضت قوانين هذا النظام على الحكومة ومن ورائها المنظمات الاقتصادية الدولية الرأسمالية (من صندوق النقد الدولي، إلى البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية)، عبر قوانين دولية مرتبطة بالاتفاقيات الدولية التي عملت هذه المؤسسات على فرضها بأساليب متنوعة على الدول بحجة «الاندماج في نظام رأسمالي» يحقّق النمو والازدهار، جرّاء ما يكفله من المنافسة وحق الملكية الخاصة وبالتالي جذب الاستثمارات التي ستعمل على توظيف الموارد المادية والبشرية ونقل التكنولوجيا.
وبفضل السياسة الاقتصادية الدولية، باتت أكثر من 37 دولة تعاني أزمة غذائية، فيما ادّخرت شركة «كارغيل» العملاقة لإنتاج الحبوب 86 في المئة زيادة في محاصيلها الزراعية. ونظيرتها شركة «مونسانتو» سجلت مبيعات ضخمة جرّاء مبيدات الحشرات والبذور. السوق، كما تريده هذه التكتلات، لم يعد ينفع. ويقول المقرّر السابق للأمم المتحدة جون زيغلر «لدينا قطيع من تجار السوق والمضاربين الماليين تحوّلوا إلى قطّاع الطرق متوحشين، وشيّدوا عالماً من الرعب وعدم المساواة».

الوقود الحيوي: من الحلّ إلى المشكلة

إضافةً إلى طرح موضوع إلغاء القيود أو خفضها في الأسواق، كان «الوقود الحيوي»، الذي ينتج من مواد نباتية ويُستخدم طاقة بديلة عن النفط، حاضراً بقوّة في المؤتمر. ويرى البعض أنّ هذا الوقود أدّى إلى رفع أسعار السلع الغذائية التي تحوّلت نحو إنتاج الإيثانول بدلاً من إطعام الشعوب. وأكثر الدول المنتجة للوقود الحيوي هي الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تسعى إلى فك ارتباط اقتصاداتها بالنفط. لقد ضاعفت الولايات المتحدة عام 2008 من إنتاج الذرة من أجل تحويله إلى إيثانول، وهي تخطط لزيادته خمسة أضعاف عام 2022. أما أوروبا، فقد وضعت خطة للاعتماد على الوقود الحيوي البديل في تشغيل وسائل النقل عام 2020.
لذلك سعت الدول الأوروبية والأميركية إلى الدفاع عن مسألة الوقود الحيوي على اعتبار أنّه لم يسهم في رفع أسعار السلع الغذائية إلا بنسبة ضئيلة، كما قدّمت شركات إنتاج الوقود مطالعة دفاعية.
وفي الواقع، إنّ مسألة الوقود الحيوي لا تزال ملتبسة، وأوّل من دعا إلى استخدام الوقود البديل، كان المنظمات غير الحكومية، وفي مقدّمتها جماعة «الخضر»، الذين أرادوا تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الناتج من استخدام النفط والمسبّب للاحتباس الحراري. لكن «الجشع الرأسمالي» دفع بالشركات العملاقة إلى التسابق لتقديم عروضها لإنتاج الوقود الحيوي، حيث وجدت فيه مشروعاً مربحاً. وحوّلت غذاء البشرية وغاباتها ونباتاتها إلى مواد أولية، وأجبرت المزارعين على إنتاج المحاصيل النقدية من أجل تصديرها وإنتاج الوقود البديل، وتحديداً الوقود الحيوي، بدلاً من إنتاج غذاء صحي للاستهلاك الداخلي والاستقرار الإقليمي، وبالتالي حوّلت ما كان مفترضاً أن يكون حلاًّ إلى مشكلة متفاقمة، وخلّفت أزمة وصفها المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي، جوزيت شيران، بأنّها «وجه جديد من الجوع».

الحل: إصلاح النظام

الحلّ يكون حتماً «بإصلاح النظامين التجاري والاقتصادي الدوليين»، وفرض مزيد من الضوابط على النظام الذي يعزّز الاستغلال ويعمّق الفجوة بين فقراء الأرض وأغنيائها. وبالتالي اعتماد قواعد للتجارة الدولية تساعد الدول النامية على ضبط أسواقها من أجل إطعام جائعيها بدلاً من قواعد تقدّم الولائم للشركات الجشعة، وتطبيق مبدأ «سيادة الغذاء». ويقول الباحث في معهد أوكلاند، أنورادها ميتال، إنّ الوقت حان كي نوقف تقديس «العجل الذهبي»، أي ما يسمى السوق الحر، ونستبدله بمبدأ يقول إنّ «كل دولة وكل شعب له الحق بالغذاء بأسعار معقولة». ويُضيف «حين يحرمهم السوق الغذاء، فعلى السوق أن يعطيهم». من هم: كل العالم، وماذا يريدون: أن يأكلوا شيئاً ما.


فشل متلاحق

خلال قمة 2002 لـ«الفاو»، راجع زعماء العالم التقدّم الذي حصل في خفض نسبة الجوع في العالم إلى النصف عام 2015 حسبما أقرّته قمة 1996 (إعلان روما)، ودعوا إلى إنشاء «تحالف دولي ضدّ الجوع». لكنها كانت قمة «مخيّبة للآمال»، ولم تسجّل تقدّماً في مجال مكافحة الجوع وسوء التغذية الذي ينهش ثلاثة أرباع البشرية.
وفي يوم الغذاء العالمي عام 2003، عمل هذا التحالف على صياغة سياسة عمل لإبرام شراكة بين المنظمات الحكومية وغير الحكومية.
وعام 2004، أصدرت «الفاو» تقريراً تحت عنوان «التقنية البيولوجية للزراعة: للتجاوب مع احتياجات الفقراء». وادّعى التقرير أنّ «التقنية البيولوجية للزراعة هي أداة قوية في محاربة الجوع»، إلّا أنّ أكثر من 650 منظمة حول العالم، وقّعت رسالة مفتوحة ترى أنّ «الفاو» «نكست التزاماتها مع المجتمع المدني والمنظمات الفلاحية». وأشارت إلى أنّ المنظمات التي تمثل مصالح المزارعين لم تُستشر، وأنّ «الفاو» تقف إلى جانب صناعة «البيو تكنولوجي»، وأثارت في رسالتها تساؤلات جدّية «عن استقلالية، منظمة الأمم المتحدة ونزاهتها».
ردّت «الفاو» بأنّ القرار المتعلّق بالتقنية البيولوجية يجب أن يُتخّذ «على المستوى الدولي»، بمعنىً آخر استبعاد المنظمات غير الحكومية. واعترفت بأنّ «أبحاث البيولوجيا التقنية تحتكرها في العالم 10 شركات عبر وطنية»، وأنّ «القطاع الخاص سيحمي نتائجها ببراءات اختراعات من أجل تحقيق الكسب من الاستثمار فيها ويركّز على المنتجات التي ليس لها علاقة بالغذاء في الدول النامية».
«قمة أزمة الغذاء» أعادت «التذكير بنتائج» قمتي 1996 و2002 حول ضرورة «تحقيق الأمن الغذائي» و«خفض عدد الذين يعانون الجوع إلى النصف بحلول عام 2015»، وهو أمر يبدو بعيد المنال.