ميثاق السلم أوقف المجازر ولم يدمل الجراحالجزائر ــ حياة خالد

من الصعب تحديد بداية الحركة الإسلامية في الجزائر لأنها، كغيرها من بلدان شمال أفريقيا، احتضنت الفتوحات الإسلامية في القرون السابقة. وبعد الاستعمار الفرنسي، ظهرت حركات إسلامية تعمل على ترسيخ الدين، الذي يعدّ المرجعية عند الجزائريين ورمز الهوية، على غرار ما كانت تقوم به جمعية العلماء المسلمين بزعامة عبد الحميد بن باديس، الذي اتخذ من الزوايا مقرّاً لتلقين القرآن وزرع القومية في نفوس الشباب لتعبئتهم ضد المستعمر آنذاك. إلى جانب ابن باديس وأتباعه، كالبشير الإبراهيمي، كان وقع فكر مالك بن نبي مؤثّراً، من دون إغفال الأثر الذي أحدثه فكر حسن البنا وحركة «الإخوان المسلمين».
لكن هذه الجماعات، التي كانت تعمل على التغيير وتحلم بتطبيق مشروعها وإقامة الدولة الإسلامية، أُبعدت مباشرة بعد الاستقلال 1962، عندما تبنّت الجزائر النهج الاشتراكي العلماني بقيادة الرئيس هواري بومدين، الذي كان يؤمن بترسيخ مؤسسات الدولة الجزائرية والتخلّص من الإرث الاستعماري، فقام بتضييق الخناق على كل من رفض هذا النهج.
هذا النهج أطلق فكرة مناهضة النظام، لتبدأ الحركات الإسلامية بالعمل السري. البداية كانت مع مصطفى بويعلي مؤسس «حركة الدولة الإسلامية عام 1973، إذ رفض صراحة النهج العلماني الاشتراكي، وأراد «تحكيم شرع الله». وعام 1976 أسس «جماعة الموحدين»، التي دخلت في مواجهات مع الحكم. التف حوله الطلبة الجزائريون ومجموعة من الشباب المتشبّع بفكر حسن البنا و«الإخوان المسلمين»، على غرار الشيخ محفوظ نحناح مؤسس «حركة مجتمع السلم». نحناح كانت له جرأة توجيه رسالة إلى بومدين ليقول «كفى»، لكن مآله كان السجن.
وعندما توفي بومدين، ترك وراءه غلياناً كبيراً تقوده الحركة الإسلامية باسم «الصحوة الإسلامية». لم يغيّر خلفه الشاذلي بن جديد نهج سلفه، لكن الجماعات الإسلاميّة خرجت في عهده إلى العلن، وراحت تتخذ من الجامعات منابر للدعوة.
غير أن بن جديد كان بالمرصاد، فقام بتصفية الجامعات من كل دعاة التغيير، وزجّهم في السجون، ما دفع إلى المواجهات المسلّحة الأولى بين السلطة والجماعات الإسلامية عام 1976، سقط فيها بويعلي نفسه.

ديموقراطية ملطّخة بالدماء

مقتل بويعلي أخمد تحرك الجماعات الإسلامية مؤقّتاً. كان بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة. المتأثّرون ببويعلي استغلّوا الانفجار الاجتماعي الذي هزّ الجزائر عام 1988، وخرجوا إلى الوجود على شكل أحزاب سياسية أعطتها السلطة الاعتماد مثلها مثل عشرات الأحزاب، بعدما فشلت في مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كانت تتخبط فيها الجزائر جرّاء انخفاض أسعار النفط.
اعتمادات سمحت بظهور «حركة النهضة» بزعامة عبد الله جاب الله، وحركة «مجتمع السلم» (حمس) بزعامة محفوظ نحناح و«الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (الفيس) بزعامة عباسي مدني عام 1989. الأخيرة سرقت الأضواء من «النهضة» و«حمس»، غير أنها اختارت العمل الديموقراطي في البداية، قبل أن ينضم إليها علي بلحاج الذي أصبح الرجل الثاني فيها، لأنه يحمل أفكار السلفية الجهادية، وله القدرة على تعبئة الجماهير.
حجة الإقناع لدى بلحاج والوزن العلمي لمدني جعلا «الفيس» تنافس السلطة والأحزاب الأخرى التي أفرزتها الديموقراطية الحديثة في الجزائر، بعد سنين الحزب الواحد، «حزب جبهة التحرير الوطني» (الأفلان).
دخلت «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» الانتخابات البلدية عام 1990 وحصلت على الغالبية، كما فازت في الدور الأول من الانتخابات التشريعية في العام نفسه. غير أن الطريق سدّ أمامها في الدور الثاني، حين تدخلت المؤسسة العسكرية لوقف الزحف الإسلامي. فألغت المسار الانتخابي، وأرغمت بن جديد على الرحيل بـ«انقلاب أبيض»، لتدخل الجزائر في دوامة العنف.
«الفيس» لم تغفر للنظام فعلته. وشعورها بالظلم حوّلها إلى طاغية لم ينتقم من النظام فحسب، بل من كل من يعمل في مؤسسات النظام. واختلطت الأمور، وظهرت مقولة «من يقتل من؟». الأبرياء باتوا يصبحون ويمسون على مجازر، وراجت اتهامات للمؤسسة العسكرية بارتكابها لكي تضفي لاشرعية على مطالب «الفيس».

تدارك فاشلوبعد سنتين من الفراغ الذي أداره الرئيس علي كافي، استدعت المؤسسة العسكرية الجنرال المتقاعد اليمين زروال، الذي حمل معه خطاب النار والحوار. لكنه احتار من أين يبدأ، فضغط العسكر من أمامه والخطر الإسلامي المسلّح من ورائه. اعتمد على خطتين، الأولى تدعو إلى دحر الجماعات المسلّحة وتسليح المواطنين من أجل الدفاع الذاتي، والثانية سن قانون الرحمة الذي يعفو عن المتورّطين إذا سلّموا أنفسهم. لكن مشروع زروال سقط في الصراع الدائر في كواليس السلطة والضغط الممارس عليه من طرف مستشاريه، فقدم استقالته في أيلول 1998، ودعا إلى انتخابات رئاسية مبكرة.

بوتفليقة والمصالحة

بعد مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم عام 1999، نظّم استفتاء حول قانون الوئام المدني كحل وحيد لمعالجة الأزمة التي خلّفت، في ظل تضارب الأرقام، 150 ألف قتيل و2000 مفقود، القانون الذي قبله معظم الجزائريين حسب نتائج الاستفتاء من مبدأ «مرغم أخاك لا بطل»، همّهم الوحيد هو التخلّص من كابوس الرصاص والدم.
وكان قانون الوئام المدني، الذي يدعو المسلّحين إلى الاستسلام والعودة إلى صفوف المجتمع، تمهيداً لقانون المصالحة الذي قدّمه بوتفليقة للشعب الجزائري عام 2006 ويحمل بين طياته امتيازات أكثر للإرهابيين التائبين. واستفاد من هذا القانون أمراء إرهابيون عديدون، الذين بدورهم أصبحوا يدعون رفاق السلاح إلى الاستسلام.
ورغم الإيجابيات المسجّلة بعد ميثاق السلم من حيث كشف المخططات الإرهابية وعودة الاستقرار نوعاً ما مقارنة بالماضي، ما عدا هاجس العمليات الانتحارية التي ينفذها تنظيم «القاعدة في المغرب الإسلامي»، فإن قانون المصالحة أوقع البلاد في تناقض كبير، لأن الكثيرين يرفضون أن ينعم سفّاكو الدماء بالراحة فيما لم تندمل جراحات الكثيرين بعد. جراح من فقد أعز ما لديه، وعندما تضيق به الدنيا يكتفي بالوقوف عند قبره. جراح من لا تزال فلذة كبده مفقودة ولا يعرف مصيرها، فلا هو واراها في الثرى ولا هي خلف قضبان السجون.


انقسام المسلّحين وظهور «القاعدة»لكن ما لبثت تلك الجماعات أن دخلت في صراع الزعامة في ما بينها، وحاول كل منها القضاء على الآخر. وهو وضع استغلّه الجيش الجزائري لضرب هذه الجماعات ومحاصرتها في الجبال والقضاء على أهم قادتها. وبعدما تفككت تلك الجماعات، ظهرت جماعة أخرى أكثر استماتة وقوة عام 1998، هي «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» التي تداول عليها عدد من القادة، كعنتر الزوابري الذي قتله الجيش، ثم حسان حطاب الذي سلّم نفسه أخيراً للسلطات، وخلفه على رأس التنظيم عبد المالك درودكال. هذا التنظيم يرفض قانون المصالحة الذي يدعو إليه الرئيس بوتفليقة، ويعدّ النظام طاغياً وكل من ينضوي تحت مظلته ظالماً، حتى بالنسبة إلى رفاق الماضي الذين ذبحوا وقتلوا إلى جانبهم لكنهم سلّموا أنفسهم في إطار المصالحة الوطنية.
وفي عام 2006، انضمت «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» إلى تنظيم «القاعدة»، وظهر ما يسمى «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» والذي تعدّت مخططاته البعد الإقليمي. فإلى جانب ضرب النظام، بات يهدف إلى ضرب كل ما يمتّ بصلة إلى الغرب. وتفجيرات الحادي عشر من نيسان التي ضربت قصر الحكومة أصدق دليل على ذلك، لأن المبنى يعود إلى الحقبة الاستعمارية، وكان مركز الحكم الفرنسي.
وبدل الجبال، أخذت الجماعة السلفية تنتشر في الصحارى وعلى حدود المنطقة المغاربية لتنفيذ مخططات أوسع.