strong>أرنست خوريأحياناً، قد يشعر المراقب للشأن التركي، أنّ رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، يتلذّذ بتعذيب نفسه. فحزبه، «العدالة والتنمية»، يملك غالبيّة شعبيّة تخوّله ممارسة «ديكتاتوريّة السلطة» وحقّ الحكم بحصريّة استخدام العنف الشرعي. هو رئيس حكومة، ورئيس حزب حاكم، ونواب حزبه الـ340 (من أصل 550)، يمثّلون غالبيّة ساحقة في البرلمان بنتيجة انتخابات «ديموقراطيّة». لديه كلّ شيء يخوّله الحكم بيد من حديد. لكنّ الرجل، الذي أتمّ عامه السادس في رئاسة الوزراء، لم يتّخذ في وجه جمهوريّة الجنرالات وعلمانيّيها خطوة تحدٍّ واحدة مقابل جميع أنواع التعطيل التي واجهوه بها.
محطّات كثيرة سجّلت «جبن» أردوغان، أو «حكمته» أمامها: من تعديلات القوانين التي غالباً ما تنقضها المحكمة الدستوريّة، العصا التي تسيّر الحياة السياسيّة التركيّة ضمن سقف الخطوط الحمراء الكثيرة، إلى التلويح الدائم بفتح ملفّ «إسلاميّة» الحزب الحاكم، والشتائم اليوميّة التي تسوقها صحافة الجنرالات ــــ العلمانيين (جمهوريات وحريات...) ضدّه وحزبه، والنشر الدائم للغسيل التركي في المنتديات الأوروبيّة والدوليّة (وهو ما يُتوَقَّع أن يحصل خلال اجتماع المجلس الأوروبي في 23 من الشهر الجاري في مدينة ستراسبورغ الفرنسيّة، مقرّ البرلمان الأوروبي)، إلى جميع أساليب إعاقة عمل الحكومة ولو كان ذلك على حساب الاقتصاد التركي الذي يعيد البعض نموّه الكبير في السنوات الماضية إلى سياسات حكومات أردوغان الموغلة في الليبراليّة والخصخصة والالتزام بأوامر الصناديق الماليّة الدولية. حتّى إنّ خصومه ــــ أعداءه، لم يتردّدوا في خرق الإجماع الشعبي على ضرورة السعي إلى دخول الاتحاد الأوروبي لتعكير مسيرة الحزب الإسلامي المعتدل.
أمام ذلك، وقف أردوغان بابتسامته المطمئنّة ليؤكّد أنّه سيبقى يحترم المعارضة، ولو كانت هذه لا تفعل سوى ما يعرقل مسيرة حكمه. أمّا أن يصل الوضع إلى إلغاء تعديل دستوري، يرى الحزب الحاكم أنّه أهمّ إنجازاته للسماح بارتداء الحجاب الإسلامي في الجامعات التركيّة، وأن يصل الأمر إلى أن ينتظر أردوغان قرار المحكمة الدستوريّة بحظر حزبه من دون أن يحرّك ساكناً، فالأمر يكون قد وصل إلى حيث يجدر البحث عن سبب هذا السلوك وخريطة الطريق التي يضعها أردوغان وفريق عمله للمرحلة المقبلة، التي قد تشهد حظراً سيكون الأول من نوعه، لأنه سيتناول حزباً حاكماً.
صبّت معظم وسائل الإعلام التركيّة اهتمامها على الجزء الذي أثار التصفيق في كلمة أردوغان خلال اجتماع البرلمان يوم الثلاثاء الماضي، تعليقاً على قرار المحكمة إلغاء التعديل الدستوري الخاص بالحجاب الإسلامي. وقف الرجل وقال إنّ هذا «الحكم يمثّل تعدّياً على الديموقراطيّة لأنه يصادر الإرادة الشعبيّة» التي عبّر عنها 80 في المئة من النواب الذين عدّلوا المادّتين 10 و42 في 9 شباط الماضي. سجّل رئيس الوزراء اعتراضه على الحكم وهذا كلّ شيء، مخيّباً من علّق عليه آمالاً بأن يحلّ البرلمان وينظّم انتخابات مبكّرة يطرح بعدها دستور جديد أمام استفتاء شعبي ينزع سطوة العسكر.
غير أنّ الرجل قال أشياء أخرى لم تأخذ مداها في الإعلام. أهم ما جاء في كلمته التي وصفها البعض بأنها كانت «بكائيّة»، أنه وضع خطوطاً عريضة للمرحلة المقبلة. خطوط سيكون عنوانها «انتظر وشاهد»، موضحاً أنّ لدى حزبه وحكومته «خطة رقم 1 و2 و3» لمواجهة جميع الاحتمالات.
من خلال قراءة نصّ كلمة أردوغان، يمكن الخلوص إلى أنه وضع خطّة مؤلَّفة من مجموعة بنود سيسير وفقها إلى حين صدور قرار المحكمة:
ــــ تفادي المواجهة مع الطاقم العلماني المتشدّد، الذي أوكل زمام المواجهة مع الحكومة والحزب الحاكم إلى المحكمة الدستوريّة. ويأتي في هذا السياق رفض أردوغان استئناف «حكم الحجاب» أو محاولة التصرّف كأنّ الحكم لم يصدر وتحريض رؤساء الجامعات على السماح لطالباتهم بارتداء الزيّ الإسلامي.
ــــ الإصرار على احترام الدستور الحالي (الذي يمكن وصفه بأنه دستور شبه عسكري لكون خطوطه العريضة لا تزال كما وضعها العسكر إثر انقلاب عام 1980) والمبادئ العلمانيّة والقوميّة الشوفينيّة في انتظار التمكّن من تغييره جذرياً.
ــــ الإقلاع عن مشروع إمرار مجموعة من التعديلات الدستوريّة (سبق أن أجرى تعديلات مهمّة تختصّ بحقوق الأقليات غير المسلمة والمسلمة غير السنّية وأخرى متعلّقة بالحريات العامّة، المادة 301 من قانون العقوبات نموذجاً...)، والاستعاضة عنه بمشروع طويل الأمد، ولا أحد يعرف تاريخه سوى أردوغان، يقضي بإقرار دستور جديد لا يشبه النسخة الحاليّة بشيء.
ــــ تفادي «العمل منفرداً»، أو بكلام آخر مواجهة العزلة التي يفرضها عليه العلمانيّون والعسكر، بالإبقاء على التحالف الذي يقيمه منذ أشهر مع حزب «الحركة القوميّة التركيّة»، ثالث أكبر الأحزاب من حيث التمثيل البرلماني مع 71 نائباً.
ــــ اعتماد سياسة تخويف المعارضة من أنّ حظر حزبه سيؤدّي تلقائياً إلى الدعوة إلى انتخابات عامّة مبكّرة، يوحي أردوغان بأنّ حزب الشعب الجمهوري سيتعرّض فيها لكارثة انتخابيّة لن تسمح له بالاحتفاظ بنوّابه البالغ عددهم 99.
ــــ تحذير الأتراك والعالم بأسره، من أنّ إقفال حزبه سيؤدّي إلى أزمات اقتصاديّة في بلد بات فيه المواطنون مستعدّين للتصويت إلى أيّ طرف يحمل أجمل الوعود الاقتصاديّة.
المبادئ العريضة تلك، سيجري الانتقال منها إلى «الخطّة ب» إذا أقرّت المحكمة الدستوريّة حظر الحزب الحاكم. وباتت الملامح أكثر من واضحة للتعامل مع هذا الاحتمال، وتُختَصَر بالتالي: تأسيس فوري لحزب جديد يحوي الوجوه نفسها والقيادات والمبادئ والهوية الفكريّة، يحصد غالبيّة نيابية تفوق ما لـ«العدالة والتنمية» من مقاعد حصّلها في انتخابات الصيف الماضي. والحزب الجديد، أشار إليه أردوغان صراحة في كلمته أمام البرلمان، وذكرت تقارير صحافيّة عديدة أنّ كلّ الإجراءات لإنشاء هذا الحزب الجديد باتت جاهزة، وأنه لا ينقص سوى الاسم والشعار.