strong>الغش الجماعي لم يعد فضيحة، على الرغم من أن صحف القاهرة نشرت وقائع من نوع كهذا يسبقها وصف الفضيحة. لكن الواقع يقول إن هناك موافقة غير معلنة على النجاح بطريقة غير شرعية في الثانوية وفي مجالات أخرى، أشهرها الأعمال. والطالب ينتظر حفلة غش جماعي في الامتحان، لا يعرف إلى أين ستقوده، كما لا يعرف إلى أين سيقوده وضع البلد حيث لا فرق كبيراً
وائل عبد الفتاح

«الرئيس» في «الثانوية العامة»

«موقعة التفاضل». هذا هو الاسم الذي اخترعه المصريون لامتحان مادة «التفاضل والتكامل» في الثانوية العامة. الامتحان تحوّل إلى أزمة سياسية. الصحف نشرت صوراً لانهيارات ودموع وتشنجات عصبية.رئيس الحكومة الدكتور أحمد نظيف ظهر الثلاثاء الماضي في لجان الامتحان في مدينة ٦ أكتوبر لينقل للطلاب تحيات الرئيس ويبلغهم أوامره بإضافة نصف ساعة تعويضاً عن التأخير بسبب موكب الرئيس والإجراءات الأمنية، التي حولت المدينة إلى ثكنة. ولم يكتف رئيس الحكومة بتعليمات الوقت المضاف، لكنه أعلن، وكأنه في أرض معركة حربية: سنحل أزمة التفاضل.
المشهد كله عبثي. موكب الرئيس يعطل الحياة، بما فيها طريق الطلاب إلى اللجان. وامتحان للعبور بين مراحل دراسية يتحول إلى أزمة «قومية» ومانشيتات صحف عن أوامر رئاسية بالوقت الإضافي للطلاب المتضررين من موكب الرئيس. ووعود الحكومة بتجاوز موقعة التفاضل. وسرت نكتة في الشارع عن أن الرئيس أمر بزيادة ٣٠ في المئة على درجات الطلاب (أسوة بعلاوة الموظفين).
وبدا فعلاً أن الثانوية العامة أمن قومي، كما تردّد وقتها تفسير للتصريحات التي عبرت عن «غزل سياسي» أكثر من كونها اهتماماً حقيقياً بتطوير نظام التعليم أو تحسين خدماته لمواطنين منهكين بتدبير الحد الأدنى من الحياة.
الثانوية العامة رعب العائلات المصرية. مليون طالب يحلمون بالمرور من نفق ضيق إلى الدراسة في الجامعة. هم مع عائلاتهم جمهور سياسي كبير تداعبه الأنظمة من جمال عبد الناصر إلى حسني مبارك، كل بطريقته. رغم أن الثانوية العامة لم تعد الطريق الوحيد للجامعة مع ظهور أنظمة تعليم موازية وجامعات خاصة لا تحتاج إلى مكاتب تنسيق ومجموع بقدر ما يحتاج بعضها إلى أموال. المال أصبح مهمّاً، سواءٌ لشراء شهادة جامعية، أو لاقتناص فرصة تعليم محترمة. والجامعة لم تعد السلّم الطبيعي للصعود الاجتماعي كما كانت في زمن عبد الناصر.
لكن «الثانوية» لا تزال مركز الاهتمام للجمهور الكبير، لأنها ترتبط مباشرة بسياسة الدولة في التعليم والعمل. وهي سياسة تنتظرها شرائح قليلة من الطبقة الوسطى لا تزال مرتبطة عضوياً بالدولة وملاعبها في التعليم باعتباره حائط الأمان المضمون في فرصة بالجامعة (بعيداً عن مصاريف تتراوح بين ٥ آلاف و٢٠ ألف دولار سنوياً في الجامعات الخاصة أو الأجنبية).
امتحان الثانوية هو حجز مكان في الجامعات الحكومية لهؤلاء أو لفقراء لا اختيار أمامهم سوى السير في المسار الاعتيادي لتعليم الحكومة. ومثل كل الأنظمة القديمة، فقدت «الثانويّة» مكانتها المركزية، لكنها بالنسبة إلى الحكومة، أداة للسيطرة أو لضمان ولاء جيوش الموظفين والطلاب في الجامعات. نظام مبارك يتعامل مع الثانوية العامة على أنها من الأعباء الموروثة، لكنها أمن قومي لا يمس، وإن احتار عباقرة النظام في اختراع نظام ثابت لها (كل ٥ سنوات يظهر نظام جديد يحاول تخفيف الضغط على الطلاب). وفي كل مرة يتحول النظام الجديد إلى أعجوبة تتحدث عنها الأجيال ويتفاخر كل جيل الآن بأن نظام «ثانويته» أفضل.
لكن الجيل الحالي سيتفاخر على الجميع بميزتين لا منافس لهما: اتساع ظاهرة الغش الجماعي وانتشار الدروس الخصوصية لتصبح هي النظام الأساسي، لا الموازي للتعليم في المدارس. ورغم أن الدروس الخصوصية من الممنوعات القانونية، إلا أن حجم الأموال التي تدور فيها اقترب الآن من رقم ١٢ مليار جنيه (نحو مليارين ونصف مليار دولار)، لتكون أحد أهم روافد الاقتصاد السري في مصر.
«الثانوية» ليست غريبة إذاً عن المناخ السائد وتحولاته إلى الفساد والسرية. هي جزء من تحولات عامة، تندفع الآن لكي يكون الفاسد والسري هو النظام الطبيعي. وبعدما كانت الثانوية هي أكثر الامتحانات انضباطاً وخضوعاً للرقابة، لم يعد غريباً ظهور تنظيمات للغش الجماعي بدأت بميكروفونات في الشوارع وانتهت الآن بالتقاط نماذج الأسئلة، التي تصل نسخ منها ليلاً إلى مديريات التعليم، وتصويرها بالفاكس وتوزيعها قبل ساعات من الامتحان. وفي كل الحالات يكون الغش عبر موظف فاسد أو صاحب نفوذ يريد تسريب الامتحانات لابنه أو ابنته.
الفضيحة هذا العام مركّبة، وانتقلت أخبارها بين محافظتين (المنيا وكفر الشيخ). وهما بالصدفة محافظتان خطيرتان. في الأولى حدثت مصادمات دير أبو فانا، وفي الثانية اشتعلت ثورة البرلس ضد العطش والجوع.
تتقاطع الأزمات. ويبدو النظام في حالة فريدة من رد الفعل. يدير الأزمات ولا يحلها. يلقي بمسؤوليتها على الشعب. الأسبوع الماضي بدأ مبارك، من على منصة المؤتمر القومي للسكان، حملة على الزيادة السكانية باعتبارها سبب الأزمات. وهي طريقة محفوظة عادة استخدمت في الأزمات الاقتصادية، لكنه هذه المرة فجر مفاجأة، وهو يقارن بين مصر الآن ومصر أيام الفراعنة. قال إن المصريين بنوا الأهرامات وتعدادهم مليونان.
لم يفهم أحد من الحاضرين ماذا يريد الرئيس من المقارنة. ولا ماذا يعني العدد هنا، وهل هو سر البناء في عدد الشعب أم في طريقة إدارته. لكن أحد الخبثاء أصر على سؤال آخر تماماً: من أين عرف الرئيس تعداد المصريين وقتها ولم تكن هناك سجلات ولا تعداد؟ خبيث آخر أجابه: «بالتأكيد عرف من الشخص الذي وضع امتحان الثانوية العامة». خبيث ثالث أشار برأسه: «لاحظوا أن الرئيس أعلن الكشف التاريخي أثناء افتتاح مؤتمر السكان، الذي عطّل الطلاب في ٤ لجان من حضور امتحان التفاضل».

إحياء «الوحش الميّت» الجماعة الإسلامية

الجماعة الإسلامية عادت. هذا ما نفهمه من البيان العنيف الموجه إلى الكنيسة الذي صدر غداة رفض بطريرك الكرازة المرقسية، البابا شنودة، جلسة الصلح حول الهجوم على دير «أبو فانا». إنه محاولة تدخّل في الحدث من جماعة ينظر إليها على أنها «وحش ميت» لكنها بالنسبة إلى أجهزة الأمن «لعبة صالحة للاستخدام»

بيان الجماعة الإسلامية الموجه إلى الكنيسة القبطية رآها «دولة داخل الدولة» ومحرّضة على الفتنة الطائفية. اتهامات قديمة تعتمد على آراء تيارات مدنية في مصر تنتقد محاولة الكنيسة عزل الأقباط أو تقديمهم على أنهم «طائفة» مضطهدة، ومحاولة البابا شنودة منذ وصوله إلى المنصب الكهنوتي قبل ٣٠ سنة أن يؤدي دور القائد السياسي لـ«شعب» الأقباط في مصر.
هذه الآراء ترى أيضاً أن الجماعة وشقيقاتها من تنظيمات قامت على «الثورة الإسلامية المسلحة ضد المجتمع المدني»، كانت السبب بداية من السبعينيات في شعور الأقباط بالاضطهاد وبأنهم أقلية «وضيوف غير مرغوب فيهم»، ولا سيما أن الجماعة الإسلاميّة اعتمدت في تمويلها على «استحلال» أموال الأقباط.
«الكفرة أعداء الإسلام»، كما يصفهم خطاب الجماعة، وكما كانت تشير «غزواتهم» الموجهة إلى مواطنين مسيحيين. الجماعة أعلنت التوبة ويريد قادتها العودة إلى الحياة. عودة قد تكون أقرب إلى فصيل «ديني» للحزب الحاكم. يضع الرتوش لصورة لا تتناقض مع المزاج الإسلامي السائد. ولكي يؤكّد أمراء الجماعة أنهم «وحش بلا أسنان مخيفة للنظام». تخصصوا في تقديم «خدمات سريعة» ضد أعداء النظام أو خصومه، استخدموا فيها سمعتهم في الشراسة «المدافعة عن الإسلام» في الهجوم الموجه غير الرسمي وفي معارك ساحتها الرئيسية «الدين المسيّس». الجماعة خبيرة في خفايا هذه المعارك.
الخدمات السريعة تعطي انطباعاً لأجهزة الأمن بأن «الوحش في الحظيرة» تحت السيطرة وجاهز لأداء مهمات من نوع خاص. وقبل سنتين تقريباً، لاحظ العاملون في غرفة التحكم في قطاع الأخبار في التلفزيون الرسمي وجود شخصية غريبة عن المكان وتبدو عليها أهمية استثنائية. لا يتكلم. يراقب. هو ضابط أمن دولة مرافق لضيف فوق العادة على شاشة القناة الأولى. كرم زهدي، «رئيس شورى الجماعة الإسلامية»، للمرة الأولى على تلفزيون الحكومة. حدث خاص وتاريخي وبرعاية جهاز عاش أمجاده على مطاردة العناصر النشيطة في صناعة العنف المسلح.
ماذا يعني أن يقف ضابط أمن الدولة ليشرف على إخراج حوار مع «أمير من أمراء الإرهاب» كان في يوم من الأيام يخطّط لخطف حكم مصر من طريق «ثورة مسلحة».
المشهد من عامين كان غريباً. والسؤال من وقتها ملحّاً. واجابته لم تكن سوى أن الذي تغير هو كرم زهدي. أصبح ضد العنف المقدس، قائداً لجناح التوبة في الجماعة (وضمن مجموعة خصصت لها مباحث أمن الدولة مصادر رزق وسكناً في مدن غير مدنها الأصلية). كرم زهدي يومها كان يرد على إعلان أيمن الظواهري على قناة «الجزيرة» بانضمام «فرسان» من الجماعة الإسلامية إلى «القاعدة». وفي الحال الطبيعية، سيكون هذا مجرد انشقاق في تنظيم يمر بمنعطف هام. لكن الموضوع، كما بدا يومها من انزعاج الأمن، أكبر من الانشقاق والصراع على الكوادر والقيادات: هل هناك ميليشيات مسلحة نائمة في مصر يوجه إليها الظواهري رسالة يقظة وخروج عن سيطرة كرم زهدي ومجموعته المتحمسة إلى «التوبة عن العنف» والاندماج في المجتمع السياسي؟
لكن الحرب الفضائية بين الظواهري وكرم زهدي كشفت عن أنه لا يزال هناك جسم كبير للجماعة قوامه 30 ألف عضو أفرجت أجهزة الأمن عنهم بعد «صفقة التوبة»، بعد هوجة المراجعات الفكرية التي تركزت على فكرة أساسية: الحرب على الحاكم يمكن أن ينتج منها فساد وفتنة، لا الإصلاح.
أين اختفى هذا الجسم الكبير؟ هل ذاب في المجتمع؟ هل أنهكته اتفاقيات الإفراج التي تجعل المعتقل يوقع في مركز الشرطة التابع له كل يومين؟ أم أن هناك خطة ممنهجة للعودة إلى الحياة السياسية؟
بيان الجماعة ضد الكنيسة رسالة تطمين وهمية بأن الجماعة بلا خلايا نائمة وأنها لا تعمل في الشارع. والمهم أنها مع الدولة، حتى إن الدفاع عن موقف الدولة من أحداث الدير استغرقت في البيان مساحة لا يستهان بها، إلى جانب الهجوم على البابا والكنيسة. قال البيان مثلاً: «وما المطلوب من الدولة أكثر من ذلك (يقصد التحقيق) عرفاً وقانوناً؟ هل من المطلوب أن تجثو الحكومة على ركبتيها أمام السلطة الكهنوتية طالبةً الصفح والعفو مقدمة دمها ودماء المسلمين جميعاً في مقابل حادثة ارتكبها بلطجي بدافع السرقة؟».
إنها إشارة إلى دور جديد يتوقع المراقبون أن تؤديه الجماعة في خطة سحق «الإخوان المسلمين». إنها البديل الإسلامي لـ«الإخوان» الذين يجبرون الآن على العودة إلى مرحلة الدعوة السرية في المساجد. مرحلة ما قبل استدعاء أنور السادات لهم لضرب اليسار في ١٩٧٦. الآن الجماعة تُستدعى لضرب الجماعة. هي لعبة النار التي تنتهي دائماً بحرق أصابع النظام بعد أن تكون قد أحرقت جزءاً من الدولة المدنية في مصر.
والمهم أنه قد يكون دوراً بلا لاعبين حقيقيين. لأن قادة التوبة قد يسيطرون فقط على الجزء الميت من الوحش، بينما هناك جزء حي ينشط تحت الأرض بقيادة جديدة أكثر عنفاً. من يدري؟

لكمة في وجه العدالة هذا ضحية ضمنيّة. لكن الضحية الصريحة قيد التجهيز. هي قانون الهيئات القضائيّة، أوّل مشاريع مرعي بعد توليه الوزارة، وإن أُوقف نتيجة الاعتراضات، لكنّ الملاكم لم ييأس وغيّر في بعض المواد وأعاده إلى الحياة من جديد ليقدّم إلى مجلس الشعب الذي يعيش سباقاً مع الزمن، إذ سيقر ٧ قوانين في ٤ أيام هي الباقية من دورته الحالية.
المشروع يتضمن إحياء المجلس الأعلى للهيئات القضائية، الذي يضم رؤساء الهيئات القضائية (النقض ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية وأضيفت إليها هيئة قضايا الدولة وهم المحامون الذين يدافعون عن الحكومة) ويرأسه رئيس الجمهورية وفي حالة غيابه ينوب عنه وزير العدل. أي إن وزيراً من السلطة التنفيذية سيقود السلطة القضائية ويحقق مع قضاتها أيضاً، وهو ما يعدّ «انتهاكاً جديداً لاستقلال القضاء في مصر»، على حد تعبير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة.
كما أن وجود هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية ضمن هذا التشكيل لا يتفق والمنطق القانوني السليم، حيث يجب ألّا يجمع المجلس بين ممثل دفاع الحكومة ومعاونيها ورؤساء الهيئات القضائية المنوط بها الفصل في نزاعات تكون الحكومة طرفاً أساسياً فيها.
المشروع لكمة حاسمة لحركة استقلال القضاء، التي يقاومها نظام حسني مبارك بقوة وعنف، لأنه يعي أنها مفتاح الإصلاح الحقيقي. فالقضاء المستقل يعني ضمانة حقيقية ضد التصرفات الغاشمة للسلطة وأصحاب النفوذ. وهذا ما يعزّز وجود الملاكم في اللحظة الراهنة، وخصوصاً أنه مع اللكمات الأولى وضع نادي القضاة في ركن رد الفعل. ورغم أنها لم تكن سوى تمرين على الضربة المميتة، فإنها أربكت الحركة بشكل أو بآخر.
القانون غالباً سيمر في زحمة مجلس الشعب المطالَب من النظام بإقرار قوانين تعيد صياغة الحياة السياسية بهندسة مريحة لترتيبات خلافة مبارك. السرعة في تغيير القوانين توقفت قليلاً عند قانون المحاماة، بعدما تأجلت مناقشته بعض الوقت، وهو قانون هدفه الأول إبعاد «الإخوان المسلمين» عن النقابة. القانون يهدّد بوضع ملتهب، وخصوصاً أن «الإخوان» ليس أمامهم إلا الوضع صفر، وهو التظاهرات والصدام المباشر مع الأمن. خيار حياة أو موت لكنه قد يودي معه بالنقابة كلها، لأن القانون الذي يقدم بعض المزايا إلى المحامين ينص في مادته الأولى على تشكيل مجلس مؤقت لإدارة النقابة. مادة يطالب الإخوان باستبعادها، لكن الحكومة ومن خلال فريق النقيب سامح عاشور رأت أنها مادة غير خاضعة للتفاوض، الذي توقّف الآن في انتظار خيارات أو لكمات مفاجئة من الطرفين.