strong>فعلها الأيرلنديّون وعرقلوا اعتماد الاتحاد الأوروبي لمعاهدة بديلة من الدستور، قرّر حكّام أوروبا حرمان مواطنيهم الإدلاء برأيهم فيها. تحدّيات مرحلة ما بعد الرفض الأيرلندي كثيرة، وبدأت تلوح في الأفق ملامح إيجاد مخرج (غير) قانوني يبطل مفعول الرفض الأيرلندي، وهو ما كشفت عنه الدعوة إلى مواصلة التصويت على المعاهدة في البرلمانات الأوروبية
باريس ــ بسّام الطيارة
قال الشعب الأيرلندي كلمته: «لا». أثلج صدر عديد من الأوروبيين، وفي طليعتهم غالبيّة شعبية فرنسية ممن «حرموا التعبير عن رأيهم» حين قرر الرئيس نيكولا ساركوزي المصادقة على «معاهدة لشبونة»، البديلة للدستور الأوروبي، مروراً بالبرلمان، عوضاً عن العودة إلى الشعب باستفتاء كان الجميع يتوقعون رداً سلبياً عليه كما حصل في 29 أيار 2005.لا يمكن تصوّر بداية للرئاسة الفرنسية، التي تبدأ في مطلع تموز المقبل، للاتحاد الأوروبي، أسوأ من «عرقلة دستورية» لمسيرة الأوروبية. إخفاق يمكن أن يجبر أكثر من دولة على إعادة النظر «في المسار الأوروبي» الذي لا ينفكّ عدد المتشكّكين فيه بالتزايد في الدول الـ27 التي تؤلف أعضاء الاتحاد.
كان لدى ساركوزي طموح كبير إلى تنفيذ «أشياء كبيرة» خلال الأشهر الستة التي سيتبوّأ خلالها رئاسة الاتحاد، وها هو يرى نفسه مضطرّاً لمعالجة نتائج الـ«لا» الأيرلندية.
إذاً وداعاً لملفات كان يريد أن يميز عبرها مروره كآخر رئيس للاتحاد الأوروبي في «شكله الحالي»، قبل أن تدخل «المعاهدة» البديلة للدستور الجديد حيز التنفيذ، وينتهي العمل بالرئاسة المداورة.
كما كان ساركوزي يستعدّ للعمل على ملف الدفاع الأوروبي والطاقة والبيئة وتنظيم الهجرة إلى الاتحاد. غير أنّه سيرى نفسه مضطراً للعمل على «صياغة دستور جديد» يكون أقل طموحاً من الدستور الثاني الذي كان بدوره أقل طموحاً من الأول.
ما إن بدأت تظهر أولى النتائج التي كانت تشير إلى احتمال فوز الـ«لا»، حتى بدأ «معارضو الدستور الأوروبي» من اليسار ومن اليمين، حتى داخل حزب الرئيس الفرنسي «اتحاد الحركة الشعبية»، يخرجون رؤسهم ويتنازعون الميكروفونات أمام وسائل الإعلام في باريس لإعلان «شكرنا لأيرلندا» كما فعل النائب اليميني فيليب دوفيليه، الذي لم يتردّد بالقول إن «شعب أيرلندا صوت باسم الشعب الفرنسي».
ولم تقتصر «الفرحة» على اليمين، فقد عبّر الحزب الشيوعي عن سعادته بالنتيجة أيضاً، واصفاً إياها بأنها «خبر جيد للشعوب الأوروبية». كذلك كان حال وزير الدفاع السابق جان بيار شوفينمان، الذي رأى أنّ أيرلندا «قدمت خدمة جزيلة لأوروبا». حتّى الحزب الاشتراكي رأى أنّ النتيجة هي بمثابة «إنذار بعاصفة ستهبّ على أوروبا»، وطالب بميثاق اجتماعي يضمن حقوق الضعفاء في أوروبا.
ما العمل الآن؟ سؤال بدأ يطرحه من كان يؤيّد الدستور الأوروبي. وفي السياق، يقول أكثر من سياسي إنّ «من الصعب على ساركوزي» الضغط على أيرلندا، بحيث إن الشعب الفرنسي سبق ورفض الدستور عام ٢٠٠٥. ويقترح البعض العمل مع ألمانيا على رفع «الهواجس التي تخيف المواطنين الأوروبيين».
غير أنّ رئيس وزراء اللوكسمبورغ جان كلود جونكر كان أكثر واقعيّة وتشاؤماً، فأكّد أنّ «معاهدة لشبونة» لن تدخل حيّز التنفيذ في التاريخ الذي كان مقرّراً في الأول من كانون الثاني 2009. جونكر لم يخفِ خيبته من قرار الأيرلنديين، شأنه شأن معظم رؤساء الاتحاد ومسؤوليه، وفي مقدّمتهم رئيس المفوضية الأوروبيّة خوسي مانويل باروزو وبيانات صدرت عن معظم العواصم الأوروبية. وقال جونكر بوضوح: «هناك العديد من الأسئلة تُطرَح بنتيجة الاستفتاء الأيرلندي على مستقبل الدستور».
ممّا لا شكّ فيه أنّ ساركوزي كان في غنى عن هذه الأزمة الدستورية الكبرى. وجاءت الأرقام الرسمية التي أكّدت رفض الأيرلنديين لـ«معاهدة لشبونة» بنسبة 53.4 في المئة لتكون أكثر إيلاماً للرئيس الفرنسي، لأن هذه الأرقام تذكر بنسبة انتخابه رئيساً، ولتذكره بأنه حاول المداورة والالتفاف على رفض المواطن الفرنسي لهذا الدستور، وأنه يمكن أن يكون مضطراً هذه المرة للعودة إلى الشعب عبر استفتاء قد يكون حاسماً.
ولا يرى البعض إمكان إعادة إجراء استفتاء جديد في أيرلندا إذا لم تتغير المعطيات ولم يُغَيَّر مضمون الدستور، ولو شكلاً، وفي هذه الحالة يجب العودة لمصادقة الدول الـ ١٨ التي سبق لها وصادقت على المعاهدة.
ردود الفعل الأوروبيّة أجمعت على «لوم» الناخبين الأيرلنديين الذين يبلغ عددهم 4 ملايين ومئتي ألف ناخب، وحسموا مصير أكثر من 500 مليون أوروبي، إذ إنّ اعتماد «المعاهدة» بمثابة دستور أوروبي، بحاجة إلى إجماع الدول الـ 27.
هكذا صدر بيان موحَّد عن الرئاسة الفرنسيّة ومستشاريّة ألمانيا، جاء فيه تأكيد «الاحترام لإرادة الأيرلنديين رغم أننا نأسف لقرارهم» برفض النصّ المطروح. أما وزير الشؤون الأوروبية في الحكومة الفرنسيّة جان بيار جويي فعبّر عن «إحباطه» بنتيجة القرار الأيرلندي، غير أنّه نفى أن يكون الاتحاد الأوروبي قد دخل في أزمة أو طريق مسدود. وعن المخرج الذي يراه جويي، رأى أنه يجب استمرار تصديق البرلمانات الأوروبيّة لنصّ «المعاهدة»، وحينها يصبح أمامنا رؤية لأيّ حلّ قانونيّ يمكننا التوصّل إليه».
موقف وافق عليه وزير الخارجيّة الألمانيّة فرانك فالتر شتاينماير ونظيره الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس ومعظم الوزراء والمسؤولين الأوروبيين الذي علّقوا بـ«أسى» على الإرادة الشعبية الأيرلنديّة.
كما ينظر البعض بعين غير راضية في متابعة تصديق بعض البرلمانات على معاهدة رفضتها إحدى الدول وكأنها تجاهل لرغبات مواطنيها، وفي هذا استفحال للحذر القائم بين الشعوب والقرارات البيروقراطية الفوقية التي تسنها الحكومات، متجاهلة ما تفخر به أوروبا الديموقراطية المباشرة، أي الاستفتاء العام. ومن هنا يبدو صعباً جداً على ساركوزي إذا تطلب الأمر مصادقة جديدة على معاهدة جديدة عدم المرور أمام صناديق الاستفتاء.