عام على الانقسام الفلسطيني والفصل الجغرافي والسياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية. لا متغيّرات كثيرة في طبيعة العلاقة الداخلية بين أقطاب الأزمة الفلسطينية. دعوات حوار بلا أفق ونهجان متناقضان في السياسة لم تجمعهما «وحدة المسار والمصير». وحال من الاحتقان خلفتها الاشتباكات تنتظر مصالحة شعبيّة قبل السياسيّة
غزة ــ رائد لافي

انقضى عام على تجربة السلطة المطلقة لـ«حماس» عقب انتصارها المدوي على حركة «فتح» والأجهزة الأمنية الموالية لها في مواجهة مسلحة عنيفة استمرت ثلاثة أيام، وانتهت بهروب قادة الطرف المنهزم إلى مصر ورام الله، وإحكام الحركة الإسلامية قبضتها على قطاع غزة في 14 حزيران 2007.
انتهت المعارك الميدانية في حينه، لتبدأ حرب أخرى استهلها الطرفان بالاختلاف على توصيف الحال الناشئة في غزة. الرئاسة وحركة «فتح» في رام الله تريان سيطرة «حماس» أنها «انقلاب دموي على المؤسسة الشرعية». إلا أن الحركة المنتصرة دأبت على توصيف ما قامت به بأنه «حسم عسكري اضطراري»، بعدما تمادى التيار الذي تصفه بـ«الانقلابي» بقيادة محمد دحلان في عرقلة تمتعها بالنصر وتذوق لذة الحكم بعد فوزها الكاسح في الانتخابات التشريعية مطلع عام 2006.
لكن «حماس» التي لم تمكنها الظروف محلياً ودولياً من خوض تجربة الحكم بالطريقة الديموقراطية، لم تحقق ما تصبو إليه بقوة السلاح، إذ واجهت تجربتها في الحكم عقبات كبيرة، بدأت من المرسوم الرئاسي بإقالة رئيس الوزراء إسماعيل هنية، مروراً باعتبارها حركة خارجة على القانون، وحتى القرار الإسرائيلي باعتبار قطاع غزة «كياناً معادياً» وفرض حصار خانق عليه.
لم ينتظر محمود عباس طويلاً، ورد سريعاً على احتفال أنصار حركة «حماس» بما وصفوه في بادئ الأمر بـ«الانتصار»، وأصدر سلسلة من المراسيم الرئاسية اختلف الطرفان على كثير منها من حيث مطابقتها للقانون، أولها إقالة هنية، وإعلان حال الطوارئ وتكليف وزير المالية في حكومة الوحدة «المنهارة» سلام فياض تأليف حكومة طوارئ.
لم تنل حكومة فياض ثقة المجلس التشريعي، بحسب ما يقتضيه القانون، وتقاسمت مع حكومة هنية المقالة توصيفاً يصر عليه الطرفان: «حكومة تسيير الأعمال»، فبات للشعب الفلسطيني حكومتان في الضفة وغزة المستباحتين ليلاً ونهاراً من الاحتلال.
ومارست الحكومتان انتهاكات صارخة ضد أنصارهما، لم تستثن القتل، فأغلقت المؤسسات والجمعيات الخيرية، وشُنَّت حملات من الاعتقال السياسي على أنصار بعضهما في غزة والضفة، كان الصحافيون جزءاً منها.
لكن «حماس»، التي يعاني نحو مليون ونصف مليون فلسطيني تحت حكمها المطلق في غزة، تتباهى بأنها نجحت في ما فشلت فيه حكومات حركة «فتح» على مدى 14 عاماً من التفرد بالسلطة، حيث تمكنت من فرض الأمن، وإنهاء ظواهر سلبية خطيرة كالملثمين المسلحين في الشوارع، وإطلاق النار في الأفراح، وعمليات خطف الصحافيين والرعايا الجانب.
غير أنها تتغاضى عن تنامي الاعتداءات على المؤسسات والجمعيات والمراكز والمدارس التابعة للطائفة المسيحية (نحو 4 آلاف مسيحي في غزة)، تمت جميعها على يد جماعات إسلامية متشددة، غالباً ما توجه أصابع الاتهام إلى حركة «حماس» بأنها من وفرت لها تربة خصبة للنمو والانتشار.
ولم تكن الدولة العبرية بعيدة عن الأحداث التي «زلزلت» الساحة الفلسطينية وغيرت خريطتها السياسية، فدخلت لاعباً رئيسياً في الأزمة، لتعزيز الانقسام السياسي والجغرافي بين «دولة حماس» في غزة، و«دولة فتح والسلطة في رام الله».
وأصدرت دولة الاحتلال بعد نحو ثلاثة أشهر من «الحكم الحمساوي المطلق» قراراً عدّت بموجبه قطاع غزة «كياناً معادياً»، وبموجبه شددت إجراءات الحصار وإغلاق المعابر والمنافذ، وفرضت قيوداً شديدة على المواد الأساسية والضرورية، أهمها المواد الخام، ومواد البناء.
وتابع الاحتلال إجراءات العقاب الجماعي بتقليص كميات الوقود التي يحتاج إليها سكان القطاع يومياً.
هنية وجد في ذكرى السيطرة على غزة مناسبة مواتية لمقابلة مراسلي الصحف العربية في «قصر الحاكم»، الذي كان مقراً للحاكم المصري إبان فترة الحكم المصري للقطاع، غير أنه رفض الربط بين اللقاء والذكرى، مشيراً إلى أنها «مجرد مصادفة».
ولا ينكر هنية أن العام الماضي كان «مؤلماً»، جراء الانقسام والحصار والعدوان، غير أنه لم يغير موقفه عندما رد على سؤال: هل كانت «حماس» ستنفذ ما قامت به لو عاد بها الزمن للوراء، قائلاً: «ما قمنا به كان اضطرارياً، ولا أحد كان يريد أي انقسامات والوصول إلى ما وصلنا إليه».
ولا يعني الفلسطينيون كثيراً إذا كانت سيطرة حركة «حماس» على غزة «انقلاباً» أو «حسماً عسكرياً» بقدر ما يعنيهم ضرورة العمل على إنهاء معاناتهم وتجاوز الخلافات.
نحو مليون ونصف المليون فلسطيني دخلوا في 14 حزيران الجاري عامهم الثاني «نزلاء اضطراريين في سجن قطاع غزة الكبير». معاناتهم في هذا السجن لم تبدأ مع سيطرة حركة «حماس» على غزة، ولكنها تضاعفت وازدادت قسوة.
الفلسطينيون، الذين سئموا دعوات الحوار والمبادرات الفاشلة، وجدوا عزاءهم في استحضار ذكريات الزعيم الراحل ياسر عرفات، وقال كثير منهم من أنصار الفريقين: «لو كان بيننا لما استمر الانقسام 24 ساعة». واتفق الصديقان أيمن «الفتحاوي» وسعيد «الحمساوي» على أن سبب استمرار الأزمة عدم امتلاك عباس وهنية قرار المصالحة الوطنية.
وقال أيمن إن عباس يعاني من الضغوط الأميركية والإسرائيلية لمنعه من التقارب مع «حماس» وإنهاء الأزمة الداخلية، من خلال تهديده المستمر بوقف الدعم المالي والمفاوضات السياسية، بينما يرى سعيد أن هنية رجل وحدة، لكن قرار «حماس» بيد رئيس المكتب السياسي خالد مشعل.
وقال أحمد، المناصر لحركة «حماس»: «لم نكن نتصور أنهم سيحاصروننا بهذا الشكل، ولم يخطر على بال أحد أن اقتصادنا سيدمر وسنسجن بهذه الطريقة». كلمات بسيطة اختصر بها ما شهدته غزة على مدى عام. وأضاف: «الحديث عما حدث الآن لا يفيد ولا ينفع ولا يهمني من أخطأ أو من أصاب. المطلوب هو أن تعود وحدة الشعب والوطن، فلا أحد مستفيد من استمرار الانقسام والفرقة».
جميل، شاب مناصر لحركة «فتح»، يقر بأنه انتخب ثلاثة من قادة حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية الماضية، لافتاً إلى أن «حكومة حماس منعت إطلاق الرصاص في الأفراح وظاهرة الملثمين والفوضى، ولكن مفهوم الأمن في تصوري أبعد من ذلك». وقال: «الأمن يعني أن يجد الناس علاجاً ووظيفة وقدرة على السفر والتصدير والاستيراد ورصف الشوارع والكهرباء وعدم التمييز، وهذا لم يتحقق للأسف الشديد».
وترى سمية أنه ليس من الحكمة في شيء تحميل حركة «حماس» مسؤولية الحصار الظالم المضروب على القطاع، مشيرة إلى أن الحصار فُرض عقاباً للشعب الفلسطيني على خياره الديموقراطي بعد فوزها في الانتخابات التشريعية.
غير أن سمية تقر بأن الحصار تم تشديده ومضاعفته وزادت معاناة الفلسطينيين جراء استغلال الدولة العبرية حال الانقسام في الساحة الفلسطينية بعد موجات الاقتتال التي أفضت إلى سيطرة حركة «حماس» على القطاع. وقالت: «المطلوب من حركتي فتح وحماس تقديم مصلحة الشعب الفلسطيني العليا على مصالحهما الشخصية والحزبية، والعمل بصدق للخروج من الأزمة الداخلية ومعالجة القضايا الخلافية بالحوار وعدم العودة من جديد للغة الدم والسلاح التي عانى الفلسطينيون من ويلاتها على مدى العام الماضي».
وقال المحلل السياسي، جهاد حمد: «نحن أحوج ما نكون الآن إلى المصالحة والتوافق ووقف كل أشكال التحريض وتغليب ثقافة الحوار». وأضاف أن «استمرار الخلافات والفرقة سيعزز فرصة الانفراد بالمفاوض الفلسطيني وإمرار مشاريع سلمية هزيلة تكون كفيلة بفناء المشروع الوطني، فضلاً عن أن حال الانقسام هي مبرر لاجتياح واسع لقطاع غزة بزعم أن الضفة والقطاع كيانان منفصلان».