strong>القطيعة التي أعلن نيكولا ساركوزي إجراءها مع فرنسا الديغوليّة وصلت إلى حدود حلف شمال الأطلسي. شارل ديغول أخرج باريس من قيادة الحلف، وساركوزي أعادها إليها. عودة جاءت مُرفَقَة بـ«كتاب أبيض» عسكري سيُعرَض على البرلمان الفرنسي ويتضمّن خطّة إعادة هيكلة الجيش وخفض عديده وتعديل استراتيجياته
باريس ــ بسّام الطيارة
لم يعد من الضرورة التذكير بأنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي يفعل ما يقول: لقد تعهّد العودة إلى «القيادة العسكرية لحلف الأطلسي» وها وهو يعلن التنفيذ بشكل رسمي على شكل «كتاب أبيض» حول تحسين قدرات الجيش الفرنسي رغم نفي محيطه هذا الأمر مرات عديدة.
مجدّداً، يبرهن ساركوزي أن «النفي خلال مراحل التحضير»، ما هو إلا طريقة لتحضير الرأي العام لتقبّل ما يسوَّق، وهو ما بات يُعرَف بـ «الإدارة الساركوزية» للإصلاحات.
بعد أيام سيكون ممكناً لجميع الفرنسيّين الاطّلاع على التوجّهات الجديدة للقوات المسلحة الفرنسية للسنوات الـ15 المقبلة، وذلك عن طريق شرائهم «الكتاب الأبيض» الذي ستنشره وتوزّعه دار «أوديل جاكوب» للنشر، وهي طريقة تذكّر كثيراً بالأسلوب المتّبع في الولايات المتحدة.
وعلمت «الأخبار» من مصادر مطّلعة أن اللجنة التي كلّفت صوغ الطروحات الساركوزيّة، قد استمعت إلى ما يزيد على ٥٠ شخصية من فرنسا ومن خارج البلاد، تمثل تيّارات متعددة لمسألة الدفاع، منها السياسية ومنها الدينية والاجتماعية. كما لم يهمل الخبراء العنصر «الأجنبي»، فتم الاستماع إلى شخصيات وباحثين من آفاق مختلفة بينهم الوزير اللبناني السابق غسان سلامة.
ولا شكّ في أن ما سيُطرح على البرلمانيّين الفرنسيين في ٢٣ تموز المقبل من برمجة لمستقبل جيش فرنسا سيمثّل ثورة على أكثر من مستوى: أولاً عسكري إذ إن النموذج الجديد للجيش سيكون مختلفاً تماماً عمّا سبقه. واقتصادي ــ اجتماعي ثانياً، بحيث إن المخطط (إذا وافق عليه البرلمان) يقضي بصرف ٥٤ ألف عسكري من أصل ٣٢٠ ألف من الخدمة.
وكل هذا سيقود إلى «نوع من القطيعة الثقافية» للمواطن الفرنسي الذي تشرّب في تاريخه مفهوماً محورياً للجيش كلبنة للحمة الشعب الفرنسي، وخصوصاً أنه لم يهضم حتى اليوم إلغاء جاك شيراك للخدمة العسكرية في مطلع عهده.
ولا تتوقف القطيعة المعلنة على الشق النفسي ــ التاريخي، ذلك أن هناك شقاً «سياسياً مئة في المئة» في هذا التحول الجديد للمفهوم العسكري الفرنسي. فساركوزي نفسه أعلن أمس، لدى تقديمه خلاصات «الكتاب الابيض»، أنه يريد العودة الى القيادة العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي. وأشار في هذا السياق إلى أنْ «لا شيء يتعارض مع مشاركتنا في البنى العسكرية للحلف الأطلسي»، مضيفاً إن فرنسا هي في النهاية «حليف مستقل وشريك حر»، إذ لمّح إلى أنها ستحافظ على «استقلالية القرار»، مشدّداً على المبادئ التي أرساها الجنرال ديغول الذي سحب بلاده من القيادة العسكرية الأطلسية.
وأوضح ساركوزي أن «فرنسا ستحافظ في جميع الظروف على حرية التقدير الكامل في شأن إرسال قواتها في مهمة ما»، وأنها «لن تضع أيّ كتيبة تحت القيادة الأطلسية في زمن السلم». غير أنّه شدد على أن «القدرة النووية الفرنسية ستظل وطنية حصراً» أي أن قرار استعمال السلاح النووي سيظل في يد الرئيس الفرنسي وحده.
وأوضح ساركوزي «نوعية الأخطار الجديدة» التي يمكن أن تواجه فرنسا في المستقبل القريب وعدّد في طليعتها الخطر الإرهابي. ورأى ضرورة كبيرة في إعطاء الشق الاستخباري أكبر مجهود لأنه بفضله «لم يتم استهداف فرنسا خلال هذه السنوات القليلة الماضية باعتداءات إرهابية».
وفي كلمته نفسها، ذكّر ساركوزي بأن «التهديد موجود وحقيقي» وأنه بإمكانه أن يأخذ «شكلاً جديداً أكثر خطورة» مثل استعماله لـ«الوسائل الإشعاعية والكيميائية والبيولوجية وهجمات عبر الإنترنت وانتشار الأوبئة على نطاق واسع وأزمات صحية أو كوارث مناخية».
ورغم إعلانه أنه «لن يتخلى عن أفريقيا»، إلا أن بعض ما تسرّب عن «الكتاب» يفيد أن عدداً كبيراً من القواعد الفرنسية في القارة السمراء ستُقفَل لنقل «المجهود العسكري» نحو منطقة أزمات تمتد من المحيط الأطلسي إلى المتوسط، والخليج والمحيط الهندي في ما يشبه تقاسم مهمات مع الدول المؤثرة في «الحلف الأطلسي» على حدّ تعبير أكثر من خبير.
وبرّر ساركوزي هذا التغيير الكبير في حضور فرنسا في جنوب المتوسط، بأنه «رغبة في تحديث الاتفاقات من دون التخلي عن هذه القارة»، مشيراً إلى ضرورة تعاون جميع الدول الأوروبية والأفريقية التي تتقاسم الفكرة القائلة إنّ «أفريقيا ستكون مفتاح التنمية والأمن الدولي خلال السنوات المقبلة».
ويرى أكثر من خبير، أنّ ساركوزي يذهب في المسار نفسه الذي خطّه سلفه شيراك بعودته إلى الحلف الأطلسي بصفة مراقب أولاً، ثم قبوله المشاركة في حرب كوسوفو تحت راية الحلف. والأكيد أن الرئيسين (شيراك وساركوزي)، رغم إعلانهما انتماءهما إلى الديغولية التاريخية والسياسية، فهما يتّبعان سياسة تقارب مع الأطلسي، بعدما اختفت موجبات وجود الحلف مع انهيار الكتلة الشيوعية.
وكما كان متوقّعاً، سارعت كل من الولايات المتحدة وقيادة حلف الأطلسي إلى الترحيب بالقرار الفرنسي. واكتفى المتحدث باسم البيت الأبيض، غوردن غوندرو، بالقول «إننا نرحّب بهذا النبأ».
أما في بروكسل، فجاء الترحيب أكثر حرارة، بحيث أعرب الأمين العام للحلف ياب دي هوب شيفر عن سعادته بنية ساركوزي استعادة دور فرنسا الكامل في القيادة العسكرية للحلف.
وأعلن المتحدث باسم الأطلسي جيمس اباثوراي أنّ «الأمين العام يرحّب بإعلان الرئيس ساركوزي».