أرنست خوريمنذ احتلال العراق، كانت التقديرات في شأن الأموال الأميركيّة التي «أُهدرَت» أو «سُرِقَت» على أيدي الإدارات العراقيّة المتحالفة مع واشنطن في بغداد، خياليّة. إلا أنّ أيّ رقم لم يصدر عن أي جهة جرُأت على مغامرة التدقيق في حجم تلك الأموال. اليوم، وبعد خمس سنوات على الغزو، تطوّعت هيئة الإذاعة البريطانيّة «بي بي سي» وجمعت معلومات «قيّمة» من أطراف ومؤسسات أميركيّة وعراقيّة ومستقلّة، خلصت من خلال دراستها والتدقيق فيها إلى أنّ حجم الأموال الأميركيّة التي ذهبت إلى «جيوب» عراقيين، حكّام ومؤسسات وهميّة، يقَدَّر بـ23 مليار دولار! مبلغ خيالي، لكن من المرجَّح أنه يبقى متواضعاً إذا ما قُورِن بالسرقة التي تكبّدتها الخزانة العراقية على أيدي المؤسسات الأميركية والأجنبيّة، وعلى أيدي حكّام العراق تحت الاحتلال.
ومن حيث الفساد المالي، يأتي العراق، بحسب لائحة أبرز المؤسسات الدوليّة المعنيّة، «الشفافيّة الدوليّة»، في وضع أفضل من دولتين فقط، هما بورما والصومال من أصل جميع الدول المعترَف بها.
وبحسب دراسة الـ«بي بي سي»، التي نشرت أجزاء منها صحيفة «لو موند» الفرنسيّة، فإنّ وزارة الخزانة الأميركيّة تصنّف الـ23 مليار دولار المهدورة في العراق تحت تسميتين: «أموال مسروقة»، أو أموال «غير مبرَّرة». وفي السياق، فإنّ مجلّة «بانوراما» ترى أنّ تلك الأموال سُرِقَت عبر الوسيط الأهم، وهي الشركات الخاصّة التي تولّت منذ عام 2003 مهمّة إطعام الجنود الأميركيّين البالغ عددهم اليوم 151 ألفاً (وصل عددهم إلى 200 ألف) وتوفير جميع لوازمهم. وفي مقدّمة تلك الشركات، يندرج اسم العملاق الأميركي «هاليبرتون» الذي يملك فيه نائب الرئيس ديك تشيني ونخبة من مسؤولي إدارة جورج بوش العدد الأكبر من الأسهم، والذي حاز النسبة الأكبر من عقود «إعادة الإعمار» من دون أي استدراج عروض.
وتشير «بي بي سي» إلى أنّ الشبهات بنقل الأموال «غير المبرَّرة» أو «المسروقة» إلى الوزارات العراقية حيث جرت عمليّة السطو، تحوم حول 70 شركة أميركيّة متعاقدة مع وزارة الدفاع «البنتاغون». وتفرض إدارة بوش حظراً هائلاً على نشر أي معلومة عن التحقيقات التي تجريها عن ملفّ سرقة الأموال الأميركية في بلاد الرافدين، بحيث وضعت عليها شارة «أمر بالصمت».
وقد تحدّثت تقارير إحدى الشركات الأميركيّة التي استُقدمَت للتدقيق في هذه الحسابات عن 165000 وثيقة تمّت دراستها تؤكّد جميعها حالات السرقة التي حصلت.
وعرضت «لوموند» بعض العبارات التي تُغطّي الهدر الحاصل؛ فالعديد من الوثائق يظهر شيكات دُفعَت إلى مؤسسات عراقيّة لـ«دفع رواتب عراقيين». أما معرفة رواتب مقابل ماذا، ومن هم هؤلاء «العراقيين»، فهذه تبقى أسراراً!
كذلك هناك إيصال غريب من نوعه بقيمة 5 ملايين و700 ألف دولار مكتوب عليه لفائدة مؤسسة «القصيد للتجارة والسيارات» العراقية ثمناً لـ«معدّات تجهيز». نوعيّة تلك التجهيزات وهويّة متلقّيها لا تزالان غير معروفتين. كما أنّ هناك إيصالاً آخر بقيمة نحو 6 ملايين و300 ألف دولار أُعطيَت لمؤسسة لا أحد يعرف عنها شيئاً، اسمها «كومبات سابورت أسوسيايتس»، في مقابل «خدمة» طبيعتها غير محدّدة.
هذه عيّنة من بعض أوجه التدقيق الحاصل حالياً على أيدي مؤسسات الرقابة الأميركيّة. أما في الجهة العراقيّة، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً بأشواط. والسبب هو أنّ الجهة المخوّلة مراقبة الفساد، محصورة بـ«هيئة النزاهة» الخاضعة لرئاسة مجلس الوزراء العراقي. هيئة قُتل 31 من أعضائها منذ تأليفها «لأنهم حاولوا التدقيق في ملفّات فساد حسّاسة». وكلمة «حسّاسة» هنا تشير تحديداً إلى جهات حكوميّة. وعن هذا الموضوع، باتت قضيّة الرئيس السابق لـ«هيئة النزاهة»، راضي الراضي، أكثر من ذائعة الصيت، منذ قام رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بإقالته «على خلفيّة ملفات فساد»، بينما يدّعي الراضي أنّ المالكي أقاله تحديداً لأنه حاول الكشف عن فساد يشتبه في أن رئيس الوزراء أو (و) وزراءه والمقرّبين منه متورّطون فيه.