strong>ظاهرة الخروج الجماعي عن القانون متفشيّة في مصر الآن. رسالة رفض سياسي لأي تمرد غير منظّم على الدولة، من تسريب امتحان الثانوية العامة إلى الهجرة غير الشرعية. تكسير القانون أصبح هدف المنبوذين اجتماعيّاً لنيل الحق الضائع بالقوة
وائل عبد الفتاح

استقالة نظام
استقال وزير الصناعة والتجارة رشيد محمد رشيد. هذه شائعة أو تسريب صحافي يفسر الصراع بين الوزير وملياردير الحديد أحمد عز على قانون «منع الاحتكار». كلاهما ينتمي إلى المجموعة الصغيرة من رجال الأعمال التي تحكم مصر. الفارق بسيط في تاريخ عائلة كل منهما. رشيد من عائلة أكثر عراقة في النشاط التجاري، وهو ما جعلها منذ السبعينيات تصطاد توكيلات شركات مهمة مثل «ليبتون» و«ماجي». صعود عز صدمة تلخّص من وجهة نظر الكثيرين ألعاب النظام السياسي في السنوات العشر الأخيرة فقط.
هناك فرق آخر وهو أن رشيد أصبح وزيراً، بل هو مرشح أوّل لتولي أي حكومة مقبلة (حصل على إشادة مباشرة من الرئيس الأميركي جورج بوش وعلى دعم كامل من مجموعة جمال مبارك). وعز في الحزب الحاكم يلعب من الكواليس، يدير النواب والمجموعات بطريقة «كوادر التنظيمات السرية».
لكن الفارق الكبير أن رشيد من جيل هادئ في الأعمال (ابن رأسماليّة تقليدية تسعى إلى قوانين تحكم اللعب والمنافسة). لكن عز رمز لاستخدام النفوذ السياسي في صنع ثروات ضخمة. لعبته الاحتكار وامتصاص السوق، وهي إحدى علامات الرأسمالية المتوحشة التي تكاد تلتهم اقتصاد مصر كلها.
الاحتكار هو نقطة الصراع الأساسية بين الوزير والملياردير. صراع يقال إنه مجرّد مسرحيّة متّفق عليها تهدف إلى غسل سمعة عز وتبرئته من تهمة الاحتكار. رشيد قدم قانون منع الاحتكار ومر في مجلس الشعب، لكن للمرة الأولى استطاع أحمد عز أن يعيده مرة أخرى إلى المجلس ويحصل على موافقته على تعديل جديد، يتيح للشركة التي تقدّم أوراقاً تثبت تورطها في الاحتكار أن تعدّ «شاهداً ملكاً» وتخفض الغرامة عليها إلى النصف.
عز وحده جمع مجلس الشعب ليفرض المادة الجديدة. رغم أن الغرامة التي أقرها مجلس الشعب، لا تتجاوز ٣٠٠ مليون جنيه (٥٥ مليون دولار تقريباً)، وهي غرامة غير رادعة لأن أرباح الشركات تتجاوز المليارات.
أحمد عز نسف القانون، وهذا سبب احتجاج رشيد (أو استقالته حسب الشائعات). وهو نوع من احتجاج الرأسمالية التقليدية. احتجاج يبحث عن مكان دافئ وسط الغابات التي احتلتها ديناصورات الرأسمالية المتوحشة. والاستقالة (المتخيلة) هنا احتجاج على انتصار في معركة نفوذ وليست اعترافاً بالخطأ. فالأخطاء الكبرى لا تدفع الوزراء في مصر إلى الاستقالة. ولم يقدم طوال عهد حسني مبارك وزير استقالته سوى وزير الثقافة فاروق حسني بعد كارثة احتراق قصر ثقافة بني سويف (جنوبي القاهرة) أثناء عرض مسرحي. الوزير حينها لم يقدم استقالته اعترافاً بالخطأ، بل احتجاجاً على حملة النقد. والقيادة السياسيّة (التعبير المفضّل لصحافة الحكومة عن التصرفات غير المعلنة للرئيس) رفضت الاستقالة.
هذه قاعدة. لا أحد يستقيل من السلطة ولو كانت الكارثة كبيرة، إلا إذا رُفع عنه الدعم السياسي. ساعتها يُقال بطريقة لا توحي بأنها نتيجة ضغط شعبي أو لأنه فاشل. ومن الطبيعي في مثل هذا النظام أن يستقر وزير التعليم (يسري الجمل) رغم فضيحة تسرب الامتحانات. لم تتحرك الحكومة ولم تعلن عن انزعاجها الكبير. اكتفت بتبادل الاتهامات. عضو مجلس الشعب المتورط في التسريب أعلن أنه ضحيّة وشاية من الأمن، والوزير اكتفى بالقول إن الغش قديم وسابق لعهده.
لم يستورد النظام، مع القائمة الضخمة من وارداته، الإحساس بالمسؤولية الذي يجعل خبر انتحار وزير ياباني لأنه تورّط في فضيحة مالية، خبراً عاديّاً.
في مصر لا ينتحر المسؤول ولو كان فاسداً، بل يسيطر عليه شعور خفي بأن فساده شرعي. فالوظيفة الكبيرة هي منحة أو انتداب إلى بنك الحظ والثروة، انتداب يدفع الموظف الكبير ثمنها: دفاعاً مستميتاً عن مقعد سيده وولي نعمته. هكذا تتربى طبقات الموظفين في مصر على طريقة الآغوات في القصور العثمانية أو الأتباع في بيوت المماليك. لم تعد السلطة منفصلة عن الثروة، أصبح المنصب هو رأسمال الإقطاع الحديث، الذي يملك كل شيء في البلد ويحتكره: السلطة والثروة والسلاح.
على كل درجات السلّم الوظيفي يشعر المسؤول بأمان ملحوظ. لا أحد سيتغير لأنه فاسد إلا إذا كانت الشبكة التي تحميه سقطت أو تريد التضحية به. شبكات النفوذ هي أجنحة في تركيبة السلطة العليا. كل منها يرتبط بخيط ما مع أصحاب القرار. الموظف الكبير مطمئن إلى قوة مؤسسة الفساد في مصر. وهي قوة تتعاظم وتتزايد في ظل غياب حركة تداول السلطة وتنامي مراكز القوى داخل النظام الطويل العمر.
والحكومة في مصر تتألف بمنطق الشلة، لا تعتمد في الاختيار على الكفاءة أو الخبرة السياسية بل على الولاء والخضوع للسيطرة. لم يحاسب في مصر وزير وهو في السلطة، كلهم مرعوبون من الخروج لأنه بداية الطريق إلى المحاكمة مع نهاية شبكة الحماية.
تظل الصحف تتحدث عن فساد وزير والنظام لا يرد والحكومة لا ترد، حتى يصاب الناس بالإحباط ويتصورون أن الوزير بريء وأن النقد مجرد «سهام سوداء» من أعداء حاقدين وأقلام مأجورة تدمن لعبة الابتزاز.
قانون محاكمة الوزراء غائب. حماية الوزير هي القيمة السائدة في نظام يهوى معاندة الرأي العام، حتى إنه كرّم وزيراً سجل الرقم القياسي في قضايا الفساد ومنحه وسام الجمهورية. الوزير عملياً هو سكرتير للرئيس، صورته في موقعه لا وجود لها. الأهالي استغاثوا بالرئيس بعد تسرب الامتحانات، والرئيس لم يحاسب وزيره لأنه المسؤول عن كل شيء.
وتعرض أي نظام في العالم لمثل فضيحة تسريب الامتحانات كان سيؤدّي إلى الاستقالة، لأنه أثبت عدم قدرته على السيطرة على أحد أعمدته الرئيسية.
سياسي متفائل لا يزال يتصور أن الإصلاح السياسي مشروع قائم، وأن الصحف ستصدر خلال الأسبوع المقبل بمانشيت كبير: «استقالة الرئيس محمد حسني مبارك». سياسي آخر أكثر واقعية واعتدالاً علّق: «هذا مستحيل».
لكن السياسي المشهور بالتشاؤم فاجأ الجميع: «هذا ممكن». ولم يترك الدهشة طويلاً ليقول: «ساعتها سيعني ذلك أن ابنه جمال في طريقه إلى قصر العروبة».

الطرد من «جنّة الغش»

في ستينيات القرن الماضي، اقتنص الجواسيس سرّ أسرار الدولة «امتحان الثانوية العامة»، وقرروا إذاعته على الهواء مباشرة. أرادت إسرائيل أن تقول لجمال عبد الناصر إنها تخترق أدق أجهزته. فقررت الحكومة إعادة الامتحان. أما هذه الأيام الأعداء يتحركون من الداخل والتسريب من النظام نفسه


«حاكم ظالم وشعب مظلوم»، عبارة كتبها بعفوية طالب قادم من بيت ريفي وأحلام أم فقيرة بأن يحمل ابنها الكبير شهادة متوسطة. لم يتخيّل الطالب أن العبارة التي كتبها في امتحان اللغة العربية «جريمة» سيعاقب عليها بالحرمان من الامتحان ويستدعى من أجلها إلى مباحث أمن الدولة المهيبة في قريتهم النائمة بالقرب من مدينة الأقصر على بعد خطوات من آثار أول حضارة وأقدم دولة في التاريخ.
صفوت أحمد محمد حسن هو اسم الطالب الذي عُدّ بطلاً لأنه كتب الجملة وتخيّلها مراقب الامتحان أنها عبارة معارضة للرئيس. أبلغ فوراً أمن الدولة بأنفها الحساس من رائحة المعارضة في أي مكان، ولو كان ورقة إجابة في امتحان.
رئيس اللجنة، على ما يبدو من القصة، ارتعش وتعامل مع صفوت على أنه «قنبلة موقوتة» أو «قلّة مندسّة»، كما يحلو لصحف نظام حسني مبارك وصف المعارضين أو الغاضبين من سياساته. بعد دقائق أصبح الطالب «مطروداً» من اللجنة و«مطارداً» من صحافة القاهرة ومباحث أمن الدولة.
الصحافة تبحث عن أبطال سياسيّين في واقع راكد، والمباحث تريد فتح ملفّ للمعارض الذي ظهر فجأة خارج قوائمها. ما هي حكايته؟ من وراء عبارته الغاضبة؟ هل هي شيفرة سريّة؟ بيان من تنظيم تحتي يستكمل نصه في أوراق تلاميذ آخرين؟ وهناك أسئلة أبسط: ما هي علاقتك بالإخوان المسلمين؟ هل تعرف شيئاً عن تنظيم «القاعدة»؟
أمن الدولة اكتشف بخبرته أن تمرّد صفوت عشوائي، وعبارته صرخة غضب غير منظّمة، وهو طالب لكنه أقرب إلى فلاح بسيط. فالتعليم في مصر لم يعد مصنع الطبقات الاجتماعية الجديدة أو جسر الوعي والمعرفة والتغيير، أو حتى سلّم الانتقال المالي. التعليم الآن مجرّد شهادة عبور مراحل تعليمية لا تخلق سوى مزيد من القبول بالواقع والنظام والوضع في سلّم المجتمع. الفلاح يخرج من التعليم فلاحاًَ، وابن الذوات يذهب إلى موقعه المحجوز في الطبقة العليا.
صفوت روى للصحف، بعد خروجه من أمن الدولة، ما حدث بطريقة أخرى. قال إنه لم يكتب العبارة ضد الرئيس مبارك، بل ضدّ رئيس اللجنة نفسه. وأنه شعر بالظلم عندما تابع من حوله حفلة غش جماعيّة يملي فيها المراقبون الإجابات على الطلاب الذين دفعوا. وسر شعوره بالغضب أنه حُرم من الغش ولم يمرر له أحد أي معلومة لأنه لم يقدر على الدفع. شعر صفوت بالظلم (الاجتماعي هذه المرة) وكتب العبارة احتجاجاً على «الرئيس الظالم» في اللجنة، وليس على رئيس الجمهورية.
اعترف صفوت بأن تمرّده لم يكن ضدّ النظام، بل ضدّ حرمانه من فرصة النجاح المغشوش. إنها محاولة للدخول في النظام. وتمنّى على الرئيس مبارك أن يصفح عنه ويمنحه فرصة جديدة. لم يرفض صفوت الغش ولا عدّه سرقة حقوق المجتهدين (بمنطق ديني أو اجتماعي أو أخلاقي)، لكنه ثار على عدم التساوي في توزيع الغنيمة.
هذا هو حقه الضائع وثورته المكتوبة في ورقة الامتحان، وحسب روايته مبرّرة. فلماذا يحرم من الغش لأنه فقير، بينما يحصل أصحاب الأموال على كل شيء، بما في ذلك النجاح في الامتحان وضمان شهادة توفّر لهم فرصة عمل أو تمررهم من بوابة التعليم؟
العبارة الغاضبة أخطر من الاحتجاج على الرئيس. هي عبارة كاشفة عن حالة انتحار جماعي. تدمير لكل منظومات الدولة. تفجير داخلي. فالتعليم الذي كان إحدى علامات سيطرة الدولة وعمودها الرئيسي ينهار بالكامل.
التعليم في مصر موجود فقط في المدارس الأجنبية، و«تعليم الدولة» مفروض ببيروقراطية بغيضة ليدرس الطلاب اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ المحليين. طلاب هذه المدارس لا يرفضون الغش في هذه المواد «المحليّة»، بينما يتعاملون باحترام مع المناهج «المستوردة».
انه «تمرّد غير منظّم» ضدّ الدولة، كما قال الخبير العجوز الذي كاد يبكي وهو يتابع كل يوم «فضيحة» التعليم في مصر.

«الجماعة» ضدّ «الدولة» ظاهرة مثيرة للتأمل. شماتة في هزيمة المنتخب الوطني من أجل لاعب «خائن» في نظر النادي الأكثر شعبية. النادي في مقابل المنتخب. الجماعة الصغيرة في مقابل البلد. علامة أخرى للتفكك وفقدان هيبة عمومية لرموز الدولة. الهيبة بقوة الأمن لرمز واحد هو الرئيس. بقية الرموز تلتهمها كل يوم مناوشات وهبّات غضب بداية من القتل في طوابير الخبز وتظاهرات الجوع والعطش وليس انتهاء بقوارب الموت الهاربة من جحيم يومي باتجاه اليأس. وهي إعلان عن أن الدولة التي يحصل فيها رئيس مجلس إدارة شركة قطاع عام على راتب يوازي ١٠ آلاف عامل، لا يجد فيها مئات الشباب فرصة حياة لا تدفعهم إلى الهرب بـ«تحويشة» العائلة إلى البحر.
الهروب اليائس صفعة للحكومة وشطارة من سماسرة يتاجرون باليأس الجماعي. صفعة تفشل عادة في ردها، لأنه مع كل حكاية يعلو السخط من الأحوال والفشل المتكرر لسياسات إدماج ملايين لا تنظر لهم الحكومة إلا بعين الريبة وتوقع انضمامهم لجيوش الغوغاء.
ماذا إذا فتحت أبواب الهجرة؟ وكم سيكون عدد المتقدمين؟ «ليس أقل من ١٥ مليوناً»، قال سائق سيارة الأجرة، وهو يعلق على واحدة من أزمات مرورية فتح خلالها ملف الهروب الجماعي. «الحكومة لن تهرب»، يرى السائق، «إنها ستهجّر الشعب لتستريح وتستورد شعباً آخر بلا مشاكل. شعب أليف لا يطالبها بالتعليم أو العلاج أو العمل».
السائق نفسه لا يرى أن الحضري خائن، رغم أنه يؤيّد «الأهلي». إنه مع شرعية «كل واحد يبحث عن مصلحته»، وهو قانون سائد يتمرد على كل ما هو جماعي لكنه يدفع إلى ماسأة جماعية منتظرة.
فالشماتة ابنة أزمات كبيرة تدفع إلى الاحتماء بالجماعة في مقابل دولة تتفكك ويخطفها القادرون. وهذا ما جعل البابا شنودة، القائد الروحي للأقباط في مصر، يتصرف بطريقة القائد السياسي الذي لم يتحمل أن يبقى في رحلة العلاج ٣ أسابيع وطلب العودة لأن ملف أزمة دير أبو فانا في المنيا (جنوبي القاهرة) يزداد تعقيداً بعدما شكل محافظ المنيا لجنة لإزالة تعديات الدير.
المحافظ هو اللواء أحمد ضياء الدين، لسان حال وزارة الداخلية لسنوات طويلة. كل خبراته في تبرير أفعال الأمن وإدانة المواطنين المشاغبين الخارجين عن القانون.
تعرضت المنيا، منذ تولّي ضياء الدين منصب المحافظ، لثلاثة كوارث (القتل في طابور الخبز ومعركة الدير وأخيراً فضيحة تسريب الامتحانات). إنه كادر ليس مدرباً على إدارة الأزمات، بل على ترحيلها وإلقاء تبعاتها على طرف ضعيف.
البابا لا يريد مزيداً من استضعاف الأقباط، فقرر العودة لينقذ «الجماعة» من «الدولة». والخطوة الأولى هي وقف التعامل مع المحافظ (ممثل الدولة)، وهي خطوة تعني أن المحافظ ليس طرفاً محايداً لتنفيذ القانون، بل طرف في التفاوض.
علامة على التفكك تعطي للشماتة في المنتخب الوطني معنى التواطؤ على الرموز العامة. بالضبط مثل تسريب الامتحانات أو السير عكس السير وخرق قوانين المرور وغيرها من قوانين يرى أناس أنها لا تطبق إلا على الضعفاء.
الشماتة ليست جديدة، فقد أعلن الشيخ متولي الشعراوي، أول نجوم الدعاة التلفزيونيين، قبل سنوات، أنه صلى لله شاكراً حين هُزم الجيش المصري في حزيران ١٩٦٧ لأنها هزيمة لنظام عبد الناصر والشيوعيّة (على اعتبار أن عبد الناصر شيوعي!).
شماتة الشعراوي واجهت إدانة واسعة، لكن شماتة هذه الأيام تجد شعبية متزايدة كل يوم.