معمر عطويوأخيراً، حسم الاشتراكيوُّن الصربيّون قرارهم وانضّموا إلى التيّار الموالي للغرب، مستسلمين للإغراءات التي دفعتهم إلى ترك مواقعهم السابقة، تحت تأثير «هالة» استقلال كوسوفو. الحزب الاشتراكي القومي الصربي (20 نائباً)، الذي كان يمثّل بيضة القباّن في المفاوضات «الشاقّة» بين القوميين ــــ الراديكاليين والديموقراطيين، حسم موقفه، محدداً موقعه على المسرح السياسي على طريقته، بخلاف التوقعّات.
ثمة معسكران على هذا المسرح: الأول يمثّله «الحزب الديموقراطي الصربي» بزعامة رئيس الحكومة السابق، فويسلاف كوستونيتشا، وحزب «صربيا الجديدة» (30 نائباً)، إضافة إلى «الحزب الراديكالي الصربي» (78 نائباً من أصل 250)، الذي يقوده حاليّاً فويسلاف نيكوليتش.
أمّا المعسكر الآخر الموالي للغرب، فيقوده «الحزب الديموقراطي» بزعامة رئيس البلاد بوريس تاديتش، ويتألّف من ائتلاف أحزاب تحت اسم «نحو صربيا أوروبية»، والذي حصد العدد الأكبر من المقاعد في الانتخابات الأخيرة (103 نواب).
وبحكم قرب الحزب الاشتراكي الصربي من المعسكر الأول، كانت المفاوضات تسير على أساس أن هذا الحزب هو من سيحسم المعادلة لمصلحة التيار المناهض للغرب. وذلك بحكم العلاقة الجيدة التي تربط الاشتراكيين بالقوميين، التي أكدها نيكوليتش بقوله «إننا سنجري محادثات مع الأحزاب القريبة إيديولوجياً من حزبنا».
لكن إعلان الزعيم الاشتراكي، إيفيكا داتسيتش، أول من أمس، «تأليف حكومة مع التحالف المؤيّد لأوروبا»، وضع حداً للتكهّنات، رغم التفاؤل الجلي في تصريحات مسؤولي المعسكر الأول. فقد أعلن «الحزب الراديكالي الصربي»، منذ قرابة أسبوع، أن التوقيع على اتفاق لتأليف حكومة ائتلافية بات قريباً، ولا سيما بعد تلقيه الضوء الأخضر لتأليف الحكومة مع الحزبين الديموقراطي الصربي والاشتراكي، من رئيسه، فيوسلاف سيسلج، الذي يحاكم في لاهاي لاتهامه بارتكاب جرائم حرب بحق مسلمي البوسنة في تسعينيات القرن الماضي.
عزّز هذه التكهنات الاتفاق الذي وقّع عليه في 16 أيار، كلّ من الحزب الاشتراكي والحزب الراديكالي، والذي ينصّ على أن تترّكز أولويات الحكومة الجديدة على الحفاظ على وحدة أراضي صربيا، بما فيها كوسوفو، وتحسين الاقتصاد الوطني ومواصلة الجهود للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
في النتيجة، كان لا بد للإغراءات والضغوط التي مورست على الاشتراكيين أن تؤتي أكلها، فما لم ينجح مع كوستونيتشا نجح مع الاشتراكيين، رغم وحدة الحال التي جمعت هؤلاء مع القوميين والراديكاليين لسنوات طويلة.
وسائل الإعلام المحليّة تحدثت عن تنازلات كبيرة قدّمها الرئيس تاديتش، الذي تولىّ المفاوضات مع الحزب الاشتراكي في سبيل إنجاح المفاوضات معه لتأليف حكومة ائتلاف تحرم الأحزاب المعارضة لسياسته الوصول إلى السلطة.
وأوضحت المصادر نفسها أن الحزب الديموقراطي قدّم للحزب الاشتراكي عرضاً يصعب رفضه، من خلال منحه مناصب وحقائب وزارية مهمّة، منها وزارة الأمن والطاقّة إضافة إلى منصب نائب رئيس الوزراء ورئيس البرلمان.
وعلى ما بدا من خلال التطورات التي رافقت المفاوضات، فإن الحزب الاشتراكي كان ميّالاً أكثر إلى المعسكر الثاني. توضّح ذلك حين أعلن أنه يتفاوض مع الطرفين، لكنه «سيأخذ في الاعتبار أيضاً حقيقة أن اللائحة (نحو صربيا أوروبية) حصلت على عدد كبير من الأصوات».
وفي ما يتعلق بحزب رئيس الوزراء السابق، كوستونيتشا، فقد كان أهم أسباب انقلابه على تاديتش: العلاقة مع الاتحاد الأوروبي ومسألة استقلال كوسوفو. قضيّة دفعته في 13 آذار إلى حل البرلمان وإعلان إجراء انتخابات مبكرة في 11 أيار الماضي. طبعاً كانت هناك أمور أخرى أسهمت في انقلاب كوستونيتشا، الذي صدّق الغرب في البداية، في أنه سينقل صربيا إلى مرحلة من النمو الاقتصادي والرفاه، فيما كانت النتيجة خلال الثماني سنوات الأخيرة، أن سياسة الحكومة الموالية للغرب وإصلاحات السوق الصعبة لم تجلب للصرب سوى المهانة والفقر (50 مليار دولار ما بين ديون مسجلّة وأخرى مستترة، فضلاً عن الفساد والصفقات المشبوهة التي تجرى تحت عنوان الخصخصة).
أمّا في الطرف الآخر، فقد بدا الانزعاج واضحاً لدى مؤيّدي الغرب. انزعاج يمكن إدراكه من خلال تصريح للحزب الديموقراطي اتهم فيه كوستونيتشا بأنه «خدع ناخبيه» و«خان» أعضاء حزبه لأنه لم يشر قبل الانتخابات إلى أنه سيؤلّف حكومة مع الراديكاليين.
بيت القصيد هنا، أن ما واجه تأليف الحكومة من عقبات كان من المتوقّع أن يستغرق حلّها وقتاً أطول، كان أمراً طبيعياً، بحكم عدم حصول أي من المعسكرين على غالبية تؤهّله لتأليف الحكومة منفرداً: لم يتمكن الائتلاف الموالي للغرب من ذلك رغم حصوله على دعم الأحزاب الصغيرة الأخرى مثل الحزب الليبرالي الديموقراطي وتجمعات الأقليات المسلمة والهنغارية والألبانية (حوالى 7 مقاعد جميعاً).
لذلك، كان الحزب الاشتراكي بما يملكه من مقاعد هو بيضة القبّان بالنسبة إلى كلا الطرفين.
مما لا شك فيه، أن النزاع سيستمر قائماً بين المعسكرين رغم حسم مسألة تأليف الحكومة. إذ إن المعركة المقبلة لن تتوقّف عند مسألة كوسوفو، بل ستكون في المستقبل القريب على مقاطعة فيفودينا المرشّّحة للانفصال أيضاً. فالتيار القومي ــــ الراديكالي المتنامي، الذي صعد نجمه في السنوات الأخيرة كردّة فعل طبيعية على ممارسات الغرب التي فكّكت يوغوسلافيا وستؤدي إلى تفكيك صربيا. ردة فعل برزت بعدما شعر الرأي العام بـ«دَوس كرامته» القوميّة.