حملات إعادة طوعيّة وقسرية تنقلهم من نزوح إلى آخرمي الصايغ

منذ ما يزيد عن ربع قرن لم ينعم الشعب الأفغاني بالراحة، إذ ما يلبث أن يخرج من حرب ليدخل في أخرى، حتى انتهت به ويلات الحروب الداخلية والخارجية إلى أن أصبح الأكثر بؤساً بين شعوب العالم. حروب جعلت الأفغان يشدون رحالهم باتجاه الكثير من الدول، فتارةً هرباً من الغزو السوفياتي، وطوراً من معارك أمراء الحرب، لتأتي الحملة الأميركية لتزيد الطين بلة.
حملة أميركية انعكست آثارها على الأفغان، حتى قبل أن تبدأ، إذ أشارت إحصائية صادرة عن المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى أنه خلال المدة من 11 أيلول 2001، وحتى نشوب الحرب الأميركية، كانت هناك تحركات لنحو 1.5 مليون أفغاني تدفقوا على الحدود مع البلدان المجاورة، وخصوصاً باكستان وإيران، بينما اتجه آخرون إلى مناطق المعارضة التي تخرج عن سيطرة «طالبان» في الشمال الشرقي للبلاد. كما كانت هناك تحركات لعدد منهم داخل أفغانستان، وهو ما يعرف بالنزوح الداخلي.
وما إن وطئت القوات الأميركية أراضي أفغانستان، حتى تفاقمت أزمة مئات الآلاف من اللاجئين الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية على الحدود الباكستانية، مع استمرار سلطات إسلام أباد بإغلاق حدودها أمامهم، فيما ارتفع إلى حد كبير عدد الأفغان المشردين داخل أفغانستان بسبب الحرب والجفاف.
ومع نهاية 2002، توزع اللاجئون الأفغان بين معظم دول العالم، لكنهم تركزوا أكثر بين ‏15‏ دولة، في مقدمتها باكستان وإيران والحدود مع طاجيكستان وأوزبكستان، وهناك نحو ‏15‏ ألفاً في الهند‏، في حين تحتضن الولايات المتحدة والدول الأوروبية عدداً لا يستهان به.
غير أنه منذ استئناف برامج إعادة اللاجئين على نطاق واسع في عام 2002، عقب إطاحة حركة «طالبان»، عاد أكثر من خمسة ملايين أفغاني إلى بلادهم بتشجيع من الأمم المتحدة، التي قدمت وعوداً وضمانات تقضي بحصولهم على مساعدات تجعلهم يعيشون حياة أفضل مقارنة بتلك التي كانوا يعيشونها في مخيمات اللجوء.
وكشفت دراسة صدرت في 18 حزيران الجاري عن معهد «سي أم أي» بشأن البرنامج الذي أعدته الحكومة النروجية للعودة الطوعية إلى أفغانستان، عن أن الأفغان قرروا العودة إلى بلادهم بعدما فشلوا في الحصول على حق اللجوء في العديد من الدول الأوروبية، فلم يكن أمامهم بدائل أفضل.
بدورها، تعهدت الحكومة الجديدة بضمان حياة أفضل، وإعادة الاعتبار لكرامة الإنسان الأفغاني. غير أنه في ظل أعمال العنف، نزح عشرات الآلاف من الأفغان داخل البلاد، فتحوّل اللجوء خارج الوطن إلى لجوء آخر داخل الوطن، لكن هذه المرة مع رفع صفة اللجوء، وأصبح يُنظر إليهم كمشرّدين أو دخلاء على هذا المجتمع.
ويقول محمد زائر، الذي يعيش داخل كوخ طيني صغير شيدته الأمم المتحدة في مخيم خارج مدينة هرات منذ 8 سنوات، «لا نملك شيئاً. انتهت حياتنا. تقدم المساعدات للقرى ولكننا لا نحصل على أي شيء».
على الجهة المقابلة من الحدود، كثّفت السلطات الإيرانية والباكستانية جهود إعادة الأفغان إلى وطنهم، مع تزايد الأعمال الإرهابية في البلدين، اللذين ينحي كل منهما باللائمة على الأفغان، ويحملانهم مسؤولية العنف.
تُهم يردها دبلوماسيون إلى سعي زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار إلى جعل المخيمات ملجأً للتنظيمات الإرهابية، إذ يؤمّن الموقع الأفضل لاختباء عناصر «القاعدة» وحركة «طالبان» لإعادة تجميع قواهما.
وأمام هذه التهم، تسعى الدول المضيفة إلى إغلاق المخيمات على اعتبار أن «الأمن على المحك». وهذا ما قامت به فعلاً السلطات الباكستانية، التي جرفت البيوت والمتاجر فى مخيم اللاجئين الأفغان فى جالوزاي، على بعد 35 كيلومتراً من الحدود الأفغانية، بعدما أخطرت 88 ألف لاجئ مسجّل، عاشوا في هذا المخيم زهاء ثلاثة عقود. وقد سبق أن أغلقت إسلام أباد أكبر وهدمت جميع بيوته.
ورغم هذا التضييق الذي يمارس على الأفغان لترحيلهم، أكد غزال غل، التلميذ في السنة الدراسية الأخيرة بمدرسة في جاوزاي، أن عائلته لن ترحل «لا يمكننا أن نذهب. لو أجبرونا على الرحيل، لاضطررنا للعيش مع أقاربنا. الوضع في أفغانستان لا يستحق العيش».
وبالانتقال إلى إيران، كادت عمليات الترحيل القسري أن تتسبب بأزمة دبلوماسية بين كابول وطهران، لولا مسارعة السلطات الايرانية إلى تدارك الموقف، عبر تأجيل طرد اللاجئين الأفغان في كانون الثاني الماضي لدواع إنسانية، وبسبب سوء الأحوال الجوية، بعد مناشدة الحكومة الأفغانية لوقفها على الفور.
أزمة نحّى البرلمان الأفغاني على أثرها وزير الخارجية الأفغاني، رانجين دادفار سبانتا، ووزير شؤون اللاجئين، محمد أكبر أكبر، بسبب إدارتهما السيئة للوضع، وهو ما ردت عليه إيران بالموافقة على إبطاء وتيرة عمليات الترحيل. لتعود وزارة الداخلية الإيرانية إلى التهديد باعتقال نحو مليون ونصف مليون أفغاني غير شرعي، وطرد عشرات الآلاف من اللاجئين الأفغان في نيسان الماضي عبر نقلهم في حافلات إلى الحدود الإيرانية ــــ الأفغانية، بحجة أنهم باتوا يمثّلون عبئاً على الاقتصاد الإيراني.
ومع بدء إيران وباكستان بتسريع عمليات ترحيل الأفغان الموجودين على أراضيهما، حذر عدد من المراقبين من كارثة حقيقية نظراً لبلوغ أعمال العنف في أفغانستان مستويات قياسية، وبسبب محدودية الخدمات الأساسية. إذ رأى مدير «وحدة البحث والتقييم» في أفغانستان، بول فيشتاين، «لا شك في أن عودة أعداد كبيرة من الأفغان إلى بلادهم على حين غرة، وخصوصاً إلى الجنوب، سيكون كارثياً». كما رأى المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة في باكستان، «أن اللاجئين الأفغان كارثة إنسانية منسية، إذ إنهم يؤدون دوراً محورياً في استقرار المنطقة، وطردهم سوف يزعزع الاستقرار، بينما لو يُرسلون بشكل تدريجي، عندها يمكن أن يكون هناك سلام واستقرار».
ولا يزال نحو مليوني أفغاني يقيمون في باكستان ونحو مليون آخر في إيران، ويمثلون ثاني أكبر تعداد للاجئين في العالم. وتقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إن هناك نحو مليون لاجئ أفغاني غير مسجل في إيران، إذ يرفض غالبية اللاجئين الرحيل والعودة إلى بلادهم خوفاً من انعدام الأمن والبطالة وتردي مرافق التعليم والصحة.
رفض عبّرت عنه الأفغانية رايسه بيبى (39 عاماً)، التي ترتدي برقعاً أزرق وتحمل طفلها. وتقول إنها لا تريد العودة لأفغانستان «مات زوجي بالسرطان منذ ثلاث سنوات. وهنا أعمل في تنظيف المنازل عند سكان محليين، فيطعمون أطفالي الثلاثة ويغطون احتياجات أخرى». تخاف أنها لو عادت لبلدها، سوف يموت أطفالها جوعاً وأن تضطر إلى التسول.
وتقدم سانوبار نموذجاً فريداً لشعب تتملكه عقدة الهلع مما قد يلقاه على الجهة المقابلة من الحدود. فبعد 13 عاماً من عودتها إلى أفغانستان مع أبنائها الخمسة، حصلت سانوبار أخيراً على منزل خاص بها. وبعد سنوات من العودة أصيب زوجها بانهيار عصبي وترك أسرته لتعتمد على نفسها ولم تره منذ ذلك الحين.
عودة اللاجئين الأفغان تعترضها العديد من العقبات، فليس من السهل لأناس نزحوا على مدى ربع قرن من الحرب، أن يعودوا إلى بلادهم، التي حطمتها الحروب ودمرت بنيتها الفوقية والتحتية، وخلّفت ملايين الألغام في كل بقعة منها. فكيف للاجئين أن يتكيفوا مع الوضع في بلادهم، حيث النقص في المساكن وفرص العمل والطعام، الذي دفع البعض إلى تناول العشب. يضاف إلى ذلك أعمال العنف المتزايدة في بعض أنحاء البلاد التي تهدد عمليات تقديم المعونات الإنسانية وإعادة الإعمار.


لجوء لا ينتهيواتخذ أكثر من 99 في المئة منهم، أي 122 ألفاً و283 شخصاً، من الولاية الحدودية الشمالية الغربية لباكستان المحاذية لأفغانستان، مقراً قسرياً لهم، في حين عاد 953 لاجئاً من إيران. وأضافت المفوضية أن «معظم اللاجئين عادوا إلى مناطقهم الأصلية، وسط محدودية قدرة أفغانستان على استيعاب المزيد من اللاجئين، ما يفسر موقف المنظمة الدولية من التشديد على أن العودة يجب أن تبقى طوعية وتدريجية قبل التأكد من أنها حل دائم.
ويشار إلى أنه منذ بداية برنامج العودة الطوعية عام 2002، رجع خمسة ملايين أفغاني إلى بلادهم، منهم 3.2 ملايين من باكستان وأكثر من 865 ألفاً من إيران، فيما تشير المنظمة إلى أنه «لا يزال هناك ثلاثة ملايين أفغاني في المنفى».