وائل عبد الفتاحاحترف نظام الرئيس حسني مبارك لعبة الدمج بين السياسة والاقتصاد. أبطاله كثر، من رجال أعمال إلى دعاة ديموقراطية، يضحي بهم تارة ويرفعهم طوراً. ألعاب باتت مكشوفة لنظام يبدو أن هدفه الوحيد والأوحد، هو البقاء

«هنا مزرعة الديناصورات» العرض اليوناني ظل يرتفع إلى أن وصل إلى 1.9 مليار دولار تصل إلى 2.3 مليار إذا كانت النسبة 100 في المئة من أسهم المصرف. قبله انسحب عرضان عربيان: الأول إماراتي، والثاني سعودي ـــــ أردني.
ليس هناك عرض مصري واحد. الرأسمالية المصرية عاجزة عن الدخول في المنافسة في مواجهة المؤسسات الأجنبية. علامة فشل أخرى للاقتصاد المصري الذي يحصد مرحلة طويلة من سياسات لم تحقق إلا توحش الثروات ودخول الاقتصاد غرفة الانعاش.
الموضوع لا يتعلق برفض مطلق لبيع ما يسمى في مصر «القطاع العام». فالبيع في حد ذاته ليس خطيئة، كذلك فإنه ليس تحرراً من «احتكار الدولة». وفشل مزاد مصرف القاهرة لم يكن نتيجة لضغوط «الحملة الشعبية لمنع بيع مصر»، التي تألفت عقب إعلان بيع مصرف القاهرة.
الحملة شعبية فعلاً وتدغدغ عواطف وطنية، لكنها ليست مؤثرة. ربما لأنها تعتمد على الشعارات المنحازة لتجربة القطاع العام الفاشلة في نظر الكثيرين وغير الصالحة للحظة الراهنة.
الفشل إذن في مشروع نظام مبارك الاقتصادي. وهو في الحقيقة ليس مشروعاً بالمعنى العلمي. لكنه حزمة عشوائية من قرارات اقتصادية تتخذ في أوقات الأزمات أو نتيجة لضغوط مؤسسات مالية دولية. الحزمة سارت باقتصاد مصر إلى منطقة الضباب الذي يتكشف الآن عن ملامح كارثة عنوانها الحالي مصرف القاهرة.
ولد مصرف القاهرة قبل ثورة الضباط الأحرار بأيام (5 آيار 1952). مجموعة مستثمرين مصريين شاركوا في تأسيس صرح اقتصادي جديد للرأسمالية الوطنية. المصرف أدى أدواراً في تدعيم التخلص من الاحتلال: موّل شراء محصول القطن المصري (السلعة الاستراتيجية الأولى وقتها) بعد رفض المصارف الأجنبية كنوع من الضغط على حكومة الثورة. بعدها بأشهر قليلة (1957) اشترى، في إطار عملية «تمصير المصارف»، فروع مصرفين فرنسيين من أقدم المصارف وأهمها، هما «الكنتوار ناسيونال» «ديسكونت دو باري» ومصرف «الكريدي ليونية».
المصرف أدى دوراً في الاستقلال الوطني وفي تمصير الاقتصاد. وشارك مع مصارف أخرى في تكوين طبقة وسطى هي دعامة بناء الدول الحديثة. هذا قبل أن تبدأ قصة أخرى قبل 30 سنة تحولت خلالها المصارف الكبيرة إلى أندية للحظ ومزارع تربية ديناصورات. الديناصورات تحولت إلى مافيا على الطريقة المصرية.
انتهى الفساد الصغير في عصر جمال عبد الناصر (موظف يرتشي. يستغل نفوذه. أو مسؤول يفسد جهازاً كبيراً كما في واقعة صلاح نصر وجهاز الاستخبارات). وولد الفساد الكبير مع بداية عصر أنور السادات وقوانين التحول من مجتمع اشتراكي إلى مجتمع السوق المفتوح والتغيير في القوانين واللعب في المراحل الانتقالية.
«الفساد الكبير»، فساد الشبكات بين شطّار السوق والمسؤولين. مافيا تلعب بالقوانين والثروات الناعمة، وتحتمي بالنفوذ. الأعمال تشتري السياسة وتبني الأسوار العالية حول إمبراطوريات المال الحرام، يرسم عليها ممنوع الاقتراب والرقابة.
هذا ما يحدث الأن، حيث تضخمت دولة الفساد وتحولت المافيا إلى مجموعات سرية تكتسب قوتها من علاقة ما بالسلطة، يدير كل منها أب روحي، وهي شبكة من المستحيل اختراقها لأنها تتخلص من الأعضاء الخائنين بالتصفية المعنوية.
ومصرف القاهرة أصبح في هذه التحولات ملعباً للديناصورات. هذه الحقيقة كشفها تقرير سري للجهاز المركزي للمحاسبات (2005) رصد فيه أن المصرف لم يكن فقط يتغاضى عن ضمانات القروض، لكنه كان يشتري «الترام» (بمزاجه) من عملاء محترفين. حقق أرقاماً قياسية في أعداد الهاربين والمتهربين، هؤلاء كانوا وراء امتصاص المصرف حتى أصبح جاهزاً للبيع. ويرصد التقرير السري أن 31 عميلاً فقط يحتكرون القروض في المصرف، بينهم عميل حصل على 1.8 مليار جنيه، وآخر قروضه وصلت إلى 1.4 مليار جنيه.
ويبدو أن مصرف القاهرة هو محل عمل الموظفة الشهيرة التي حكي عنها أنها كانت تسأل العميل: كم تريد...؟ وعندما تجد المبلغ كبيراً تلحقه بالسؤال الأقوى: هل ستسدد؟ وعندما تكون الإجابة «نعم» كانت تضع عراقيل. لكن إذا أخبرها العميل أنه لن يسدد، كانت السعادة تجتاح الموظفة وتنتهي الموافقة في أقل من 24 ساعة.
نهاية القصة تقترب من المأساة. الرأسماية المصرية عاجزة عن شراء مصرف القاهرة. والحكومة ستبيعه بأي شكل، بحثاً عن موارد مالية تغطي عجزها في مواجهة الأزمات الاقتصادية. والإرادة غائبة في الاستماع إلى نصائح خبراء الاقتصاد الذين اقترحوا تدعيم اندماج مصرفي مصر والقاهرة ليصبحا مؤسسة مالية كبيرة تنافس عالمياً وتخلق أسس رأسمالية وطنية تحمي الدولة والمجتمع من المصير المجهول الذي يطل من خلف الضباب.

أحمد عز: كبش فداء أم الرئيس المقبل؟

فجأةً ظهر أحمد عز في الإعلام. بات دوره الخفي علنيّاً. خرج إلى العلن ليطلق مواقف سياسيّة احتار كثيرون في تفسير مغزاها. خروج يحمل احتمالين لا ثالث لهما: إما أن الرجل في طريقه إلى الاحتراق أو أن دوراً أكبر يحضّر له في المستقبل
«لن يكون رئيس جمهورية مصر المقبل»، بهذه الحماسة كتب المعارضون للمياردير أحمد عز بعد ظهوره على صدر صحيفتي «المصري اليوم» و«روز اليوسف» وفي برنامج «العاشرة مساءً» على شاشة قناة «دريم». بدت كأنها حملة تلميع للرجل الذي ظل صامتاً رغم أنه «عدو الشعب الرقم واحد»، كما وصفته جماعة «مصريون ضد الغلاء»، وهو أيضاً مدير العمليات السرية لمجموعة جمال مبارك والوحش الذي التهم صناعة الحديد واحتكرها بنفوذه السياسي.
هذه هي صور «الطفل المعجزة»، الذي كان مجهولاً قبل عشر سنوات حين كان أول المساهمين في جمعية «جيل المستقبل»، حجر الأساس في المشروع السياسي لابن حسني مبارك.
من يومها وهو شريك الابن في طريق الوراثة. كلاهما صعد. عز انتقل من وريث عائلة متوسطة تمتلك ورشة ودكاناًَ لبيع الحديد إلى «إمبراطور» الحديد. مبارك الابن أصبح المدير الفعلي للحزب الوطني الحاكم وأقرب مرشح لخلافة أبيه. الصعود المالي لأحمد عز لم يكن كل شيء، لكنه صعد سياسياً وأصبح أمين تنظيم الحزب خلفاً لمخضرم سياسي عابر للعصور هو كمال الشاذلي. والصعود السياسي لم يكن كل ما حقّقه جمال مبارك الذي لم يعد موظّفاً في مصرف لندني، بل شريكاً واسعاً في إدارة العمل، جعله يستطيع أن يتزوج ابنة واحد من أشهر المقاولين ويسكنها في شقة ثمنها مليون دولار.
جمال وعز هما نموذج من نماذج زواج المال والسلطة الذي التهم تباعاً البنية التحتية للدولة. وهذا ما يجعل الكثيرين يرون أنّ عز يحكم مصر أو هو رئيس الجمهورية المقبل. وإذا كان من الصعب تمرير جمال، رغم أنه ابن آخر سلالة الحكام العسكريين، فماذا عن رجل أعمال كل ميزاته في ثروته والذكاء الذي جمعها به. وهو من دون ثروته رجل عادي خجول منهمك في أعماله ويحلم بأن يجد وقتاً ليعزف فيه على الغيتار كما كان يفعل أيام الجامعة.
لكنّ عز صورة مخيفة لسيطرة المال على السلطة. وهذا ما يبرّر ظهوره بهذه الجرعة الزائدة التي تفتقر إلى الذكاء السياسي، لكنها تعبّر عن قوة الحضور. هي إعلان عن خروج الرجل الثاني من منطقة الغموض التي عاش فيها طويلاً.
لكنّ ظهوره لم يكن في مصلحته، فقد كشف أنه لا يتمتّع بذكاء سياسي، أو كما قال الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي، لصحيفة «المصري اليوم»: «يتمتع عز بنسبة ذكاء ممتازة، ويستطيع أن يدير حواراً ويجيب عن معظم أسئلته بطريقة سياسية لا تعطي إجابة محددة، ولكنه يفتقد الذكاء العاطفي (الكاريزما) في ظل شعور عام لدى المواطن المصري بأن نجاحه الشديد يعود لأسباب غير معروفة، وهذا هو السبب في أن المواطن لا يصدقه، ويفترض الكذب في كل كلماته».
ويرى عكاشة أن «عز تأثّر بوجود السلطة والمال وتركّزهما حوله، ما جعله أكثر تمركزاً حول ذاته، ويفتقد القدرة على التواصل مع الآخر، فلا يقبل الحوار، وإن قبله شكلاً، رفضه موضوعاً، من خلال رفضه تقبّل الأفكار الأخرى المخالفة له، وهو ما ظهر بوضوح في حواراته، إضافةً إلى طول إجاباته المقصود، وهو ما يُظهر بوضوح أنه لا يستطيع الإجابة وتحديد موقف معين».
هذه هي صورة عز الجديدة. سياسي لا يملك مهارة سياسية ولا مشروعاً. الحزب طريقه للحفاظ على مفاتيح قوته. لم تتغير الصورة وعلى العكس تأكدت. هو: محتكر الحديد. صانع الثروات الخرافية السريعة. دونجوان ماهر في الجمع بين الزوجات. مدير العمليات السرية لتجييش النواب.
عز الآن له صحافة تحارب باسمه وخصوم يحاربونه داخل الدائرة الضيقة القريبة من قصر الرئاسة. وهذه مواصفات مناسبة تماماً للحرق على طريقة دمية «اللنبي» التي ينتقم فيها أهل بور سعيد سنوياً من الاستعمار، ويعلنون بحرقها انتصارهم على الاستعمار.
أحمد عز مناسب لمصير «اللنبي»، فهو استعراضي يحب الملابس والحركات الغريبة، لكن الاستعراض هذه المرة انتقل إلى السياسة وهذا خطر ولعب بأسلاك الكهرباء. ومن السهل تقديمه ليكون دمية الانتقام.
تصرف أحمد عز كأي «فتوّة» لا يجد من يحاسبه. جرجر مجلس الشعب كله ليوقّع ما يطلبه ويتمنّاه في قانون الاحتكار ليحمي مصالحه وأرباحه. المشهد مستفزّ ولم يعترض أحد في السلطة.
أحمد عز الآن هو رمز لكل مساوئ النظام. والرموز عادةً يشبهون أنظمتهم ومن السهل التضحية بهم في لحظة خاطفة. هذا حدث مع عبد الحكيم عامر عندما تضخّم جبروته وتوحّشت سلطته وكان من السهل أن يقدَّم كبش فداء سمين يغسل به النظام خطيئة الهزيمة. والأهم أنه حمى بقية النظام من السقوط والمحاكمة.
أحمد عز ليس المشير عامر (طبعاً لأن مبارك ليس عبد الناصر). لكن الطريقة واحدة. رجل ثقة يترك له الحبل مكافأة على أدوار يقوم بها لمصلحة الرؤوس الكبيرة. مهمة عامر معروفة في السيطرة على الجيش. لكن مهمة عز غامضة وأغلبها شخصي بينه وبين جمال مبارك أو عائلة مبارك كلها.
كبش الفداء يطيل عمر النظام غالباً. يمنحة فرصة جديدة وهذا ما يحتاج إليه نظام مبارك الآن.

صناعة أبطال السياسة ليس معروفاً متى بالضبط بدأت مسيرة إبراهيم. صورته الحالية: «شهيد» و«ضحية» و«بطل سياسي». صورة تساهم في صنعها بشكل كبير أجهزة الأمن وصحافتها. بجانبها هناك أصوات عاقلة تحاول نقد ما يمكن أن نسميه «ظاهرة الدكتور سعد الدين إبراهيم»، لكن الأصوات العاقلة تختفي أو تنسحب وتترك الدكتور سعد فريسة لذئاب شرسة لا ترى فيه سوى صورة الخائن والعميل والجاسوس. وهي صور أصبحت تأتي بنتائج عكسية، فإن من تعاديه الحكومة يصبح تلقائيّاً «البطل الذي تنتظره الجماهير». ومن يسجن في معتقلات النظام، فقد حصل على شهادة الصلاحية السياسية ليتحدث كقائد لثورة التغيير.
هكذا تظهر كل يوم ظاهرة سياسية جديدة في مصر. بطل صنعه غضب السلطة. من طلعت السادات وشقيقه، إلى أيمن نور، وبداية طبعاً بسعد الدين إبراهيم. كلهم من أبناء السلطة أو أقاربها أو المقربين منها، لكنهم يعيشون لحظة غضب قصيرة أو طويلة. ولأن أجهزة السلطة تعرفهم أكثر من أي أحد آخر، فإنها تعرف من أين توجعهم وكيف تنتقم من خروجهم عن القطيع.
كل يوم تنفجر في الحياة السياسية ظاهرة من هذا النوع. شخص يتعرض لتعسف من السلطة التي تبالغ في عقابه ليملأ فراغ جمهور واسع متعطش للفرجة على مباراة بين النظام ومن يختارهم لينافسوه في مباراة تشبه مصارعة الثيران. وكلما هُزم البطل كلما فُتحت الشهية للدموع والمشاعر الساخنة المتعاطفة. ولأنه عصر الفيديو كليب، فإن أبطالاً من هذا النوع لا يستمرون طويلاً، فالجمهور يشعر بالملل سريعاً.
الدكتور سعد مقيم في قطر الآن. لا يزال يشعر أنه لا يمس، وأنه بطل تدعمه جهات لها كلمة على الرئيس مبارك وعائلته. قبل أشهر قليلة كان مستشاراً للرئيس، قبلها كان على طائرة مبارك إلى واشنطن سنة 1999.
كانت أزمة الفتنة الطائفية في الكشح لا تزال ساخنة، والدكتور سعد وجه مناسب لتهدئة الغاضبين من مبارك. فهو الذي فتح الملف المسكوت عنه: الأقليات في مصر والعالم العربي. رأى أن الأقباط اقلية لهم مشكلاتهم التي يجب حلها ليتحقق الاستقرار.
ملف لم يقدر أحد على الاقتراب منه، ولغم انفجر في وجهه، لكن النظام استفاد منه عندما واجهته أزمة الفتنة في الكشح. وقام سعد بالمهمة، شعر بالقوة والثقة الزائدة بالنفس: فهو عالم اجتماع مشهود له ومصري من الرواد في صناعة «المجتمع المدني»، وأميركي له علاقات بشخصيات تقدمه إلى مؤسسة مهمة.
الخطير في الدكتور سعد هو صلاحيته ليؤدي دوراً لمصلحة النظام على عكس ما يهوى. لعبة تدفع النظام إلى تضخيم سعد الدين إبراهيم وتقديمه على أنه واجهة المطالبين بالتغيير، نظام يربط بين الديموقراطية والعمالة وبين الإصلاح السياسي والسمسرة السياسية، فكل من يقترب من سعد الدين إبراهيم هو مشروع جاسوس.
الخلط بين المعارضين المحترمين والسماسرة هي أخطر لعبة متعلقة باسم سعد الدين إبراهيم، الذي يبدو حضوره وأزماته أحياناً مثل قنابل دخان تضرب من أجل التغطية على كوارث سياسية.