حسن شقراني«ألعاب أولمبيّة في الصين». الحدث يوجّه المخيّلة نحو تصوّر واحد: بلاد شرقيّة كانت منغلقة في المراحل الأولى لتحوّلها الاقتصاديّ ـــــ السياسي، عمدت إلى تطويع العولمة لمصلحة نموّها، وتجاري الآن ما للعصر الحديث من «بروتوكولات إنسانيّة»، وإنْ عند مستويات تختلف بحسب القضايا والمعايير. تزامنت زيارات شعلة تلك الألعاب إلى عواصم العالم، مع انتفاضة تيبيتيّة صغرى، امتدّت لتدفع المنادين بحقوق الصينيّين من تابعي الدالاي لاما، إلى الخروج والاحتجاج: لمَ تكريم النخبة في بكين بـ«روح رياضيّة» فيما أهل التيبيت الذين يرغبون بالحريّة والاستقلال يُعالجون بالعصيّ وخراطيم المياه وحتى الرصاص؟
مشاهد عديدة لفتت الانتباه بينما كانت الشعلة تشقّ طريقها: متظاهرون يحاولون عرقلة انتقالها السلمي، ورجال صينيّون بأشكال جواسيس يؤمّنون حمايتها... ولكن اللوحة المعاكسة الأبرز بطلتها كانت الرياضيّة الصينيّة السابقة، المقعدة حالياً، جين جينغ. فقد حاولت الأخيرة من على كرسيّها النقّال، التمسّك بالشعلة بكلّ ما أوتيت من قوّة، عندما حاول متظاهر ينادي بـ«تحرير التيبيت» انتزاعها منها.
وازن هذا المشهد بين أحقيّة الصين في استضافة الألعاب الأولمبيّة، وبين تعاطيها العنيف مع طلّاب الحريّة على أراضيها: من الآن حتّى تسنح الظروف السياسيّة بإيجاد توليفة تعالج وضع تيبيت، لا يمكن تجاهل أشخاص مثل جينغ، أو بالأحرى لا يمكن حرمان أكبر كتلة سكانية في العالم شرف كهذا (ليست تلك الحجّة بالضرورة هي المنطقيّة). وبالتالي على الحقوقيّين، البوذيّين أو غيرهم، قبول أنّ حكومات العالم التي تحضن حريّتهم لا يمكنها تحقيق شيء بالنسبة إلى حقوق الأقليات في الصين سوى استقبال الدالاي لاما وتكريمه.
.... في هذا الوقت، كان زعماء الحزب الشيوعي الصيني، يراقبون تطبيق قانون جديد (وضع حيّز التنفيذ في بداية العام الجاري) يعطي العمّال حقوقاً كثيراً ما نادوا بها، وأبقى التغاضي عنها البلاد عبارة عن مصنع العالم حيث الأولويّة للشركات والاستثمارات، لأنّ الاقتصاديّات النامية («المنفجرة نمواً» في هذه الحالة) تقذف بـ«الترف النسبي» للعامل إلى مراحل لاحقة من التنمية... وأصبح بمقدور العامل الصيني حالياً مواجهة الصرف التعسّفي وحجز الرواتب وإجراءات استبداديّة أخرى، «قانونياً».
الاحتجاجات على الشعلة الأولمبيّة، التي جمعت التيبيتيّين مع منادين آخرين بالحريّة مثل الأوغوريّين (الأقليّة الصينيّة المسلمة)، تمثّل فصلاً آخر من كتاب التحوّل على الطريقة الصينيّة، وليس لأيّ حكومة غربيّة مصلحة في تأجيجها، لأنّه مثلما كان هناك شبح ينتاب أوروبا في القرن التاسع عشر، شبح الصين ينتاب العالم في القرن الواحد والعشرين، الذي سيشهد حسبما يتّضح تحوّل تلك البلاد الشرقيّة من «مصنع للعرق» إلى مجتمع مولّد لـ«حداثة» من نوع آخر.