strong>بوتين يسلّم الكرملين إلى ميدفيديف... ويُبقي الحكم
ربى أبو عمو
حزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمتعته. جال بنظره بين غرف الكرملين يودعها. صوت ترنّح داخله، قفز من صمته ليقول له: «إنك عائدٌ حتماً». غداً يغادر بوتين الكرملين ليسلّم «عرشه» إلى ابنه الروحي، الرئيس الجديد ديميتري ميدفيديف، الذي يعلم في قرارة نفسه أن علم السياسة عبر التاريخ لا يمكن أن يخرّج تلاميذ أوفياء.
بوتين سيغادر الكرملين متوجهاً إلى مقرّ رئاسة الحكومة في «البيت الأبيض»، بعدما يسلمه ميدفيديف رئاسة الوزراء ذات الصلاحيات الأقل. إلّا أن «القيصر» الحالي لن يتخلى عن النفوذ بالسهولة التي يظنها البعض. فروسيا باقية في قبضته. قبل السياسة، هو رجل أمن يحسب المخاطر، وكان قد أعد نفسه لمثل هذه اللحظة، فعمد طوال سنوات حكمه إلى نثر روحه في أرجاء البلاد حتى لا تزول رائحته سريعاً.
حين تولّى بوتين الرئاسة في عام 2000، سعى إلى تفادي أخطاء سلفه بوريس يلتسين، الذي سادت الفوضى في عهده. وعلى عكس يلتسين الذي لم يكن يظهر إلا والكأس في يده، كرسَ بوتين الصورة الرصينة والجدية والمتزنة لرئيس البلاد. رسم نفسه في إطار الرجل الوقور، وهو ما كان يحتاج إليه الشعب الروسي الرازح تحت موجات من الفقر.
رغم اللباقة والجاذبية التي يتمتّع بها ميدفيديف أيضاً، إلّا أن بوتين قد ينبّهه مازحاً ألّا يأتي مرتدياً «الجينز»، كما اعتاد القيصر الجديد الظهور في العديد من المناسبات، مدركاً أن تنصيبه رئيساً جديداً لروسيا يوجب الاعتناء بأدق التفاصيل.
إنجازات وفساد
حين يطرح اسم بوتين على الساحة العالمية، لا يمكن أن تقترن هذه الشخصية إلاّ بعدد من «الإنجازات» التي حققها لبلاده، والتي أدت لا محالة إلى عودة روسيا مجدداً إلى البلاط الدولي، والوقوف ندّاً في وجه أحادية الولايات المتحدة. لكنّ الرؤية الشاملة والدقيقة للبلاد، في الوقت نفسه، تطرح بعداً آخر للسياسة البوتينية «البيروقراطية».
أسهم تصدير الثروات الطبيعية، التي كوّنت رصيد الدولة الروسية بعد ارتفاع أسعارها عالمياً، في تكريس التسلّط والفساد داخل موسكو، التي تكاثرت فيها المافيات في عهد يلتسين، في نتيجة طبيعية لسقوط الاتحاد السوفياتي وعجزه عن إدارة البلاد.
وبحسب المحلّل السياسي الاجتماعي الأميركي، سيمور مارتن ليبسي، فروسيا دولة غنية جداً ومثقفة، لكن «شهيتها للتسلّط تفوق احتمال تبنيها النظام الديموقراطي». وخلقت سرعة نموها تضارباً بين إمكان إلغاء نظامها السياسي الحالي وسيرها نحو تطوير اقتصاد ومجتمع حر. إلّا أن المجتمع الحديث لا يمكنه أن ينمو في ظل نظام سياسي مترنح بين كفي بوتين وحده. استطاعت روسيا تحقيق النمو، إلا أنها أصبحت أكثر تسلّطاً وفساداً. وبطبيعة الحال، لا يمكن الاستخلاص أن هذين العنصرين أساسيان في تنمية الدولة، لكن الحظ حالف بوتين مع ارتفاع أسعار النفط، فاستطاع أن يسمو بدولته إلى درجة الفساد والتسلّط التي أرادها.
تولّى بوتين السلطة مع اندلاع «الإرهاب الشيشاني»، بحسب وصفه، فدعّم الفدرالية الروسية، وشرع في الحرب الشيشانية الاولى، محاولاً دحر المشاريع الانفصالية الأصولية في منطقة القوقاز بأكملها. ورغم الدعاية الروسية التي دعمت نجاح مهمة الدولة من جهة، والهدوء في الشيشان، إلّا أن بوتين لم يتمكن من نزع فتيل احتمال إشعال هذه المنطقة من جديد، إذ لم تشهد هذه البلاد سوى وضع دستور شكلي وانتخاب رئيس.
داخلياً، تشير بعض الدراسات إلى تحسّن الوضع المعيشي للشعب الروسي، الذي عانى استحواذ كبار رجال الدولة على ثروة البلاد. وبلغ معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي في روسيا نحو 7 في المئة سنوياً، إضافة إلى انخفاض التضخّم والبطالة، وزيادة نسبة الدخل الفردي بمعدّل 50 في المئة. ووصل الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي إلى رقم قياسي هو 84 مليار دولار، ما يدل على الانتعاش المالي الذي حظيت به روسيا.
كما سعى بوتين إلى مضاعفة الناتج المحلي والحد من الفقر، وتحديث القوات المسلحة لضمان التنمية الوطنية، وإعادة السيطرة على عدد من القطاعات المهمة في الدولة مثل قطاعي النفط والغاز. كما تمكّن من السيطرة على مجلس الدوما والحكومة، لينفرد بحكم روسيا، التي أطلقت عليها وسائل الإعلام الغربية «روسيا البوتينية» أو «روسيا القيصر فلاديمير». أحادية السلطة هذه كانت نتيجة طبيعية لعدم تطبيق الديموقراطية في البلاد، بعدما همّش بوتين الأحزاب وسيطر على وسائل الإعلام.
ولا تزال النكهة السوفياتية السابقة تظلّل الأيديولوجية الفكرية والسياسية العملية لبوتين؛ فالعضو السابق في جهاز الاستخبارات الروسية (KGB)، حوّل مؤسسات النفوذ في بلاده إلى دمى خاضعة لسلطة الدولة وحدها. وعيّن رجاله في المناصب السياسية في السلطة، لتكوين فريق ذي هوية واحدة، فلا يشغل باله بالانقلابات. أما الآراء التي تتبنى الليبرالية، فكان مصيرها السجن.
ميدفيديف سيكون أوّل رئيس للدولة لم يشغل أي منصب في الاتحاد الروسي سابقاً، كما لم يكن أحد عناصر جهاز الاستخبارات. هو رجل عادي وعصري. يستخدم الإنترنت لتصفح الصحف يومياً. يظهر بالجينز خلال اللقاءات غير الرسمية، يمارس رياضة السباحة، وصيد السمك في سيبيريا. يعشق طبق السوتشي الياباني. وفي الوقت نفسه، لا يخفي بعضاً من ميوله التقليدية، إذ طلب من زوجته سفيتلانا البقاء في المنزل بعد ولادة ابنهما.
أسلوب يتناقض وحياة بوتين، الذي حرص دوماً على إظهار رجولته وقوته أكثر من وسامته. هو رجل يطرح خصومه أرضاً خلال دورات الجودو، يتسلق قمرات القيادة المقاتلة.
بدأت العلاقة بين بوتين وميدفيديف منذ أن انضم الأخير إلى «لجنة العلاقات الخارجية» في بلدية سان بطرسبورغ، حيث كان يدرس القانون. خمس سنوات قضاها في هذا المنصب، استطاع خلالها تقديم حلول قانونية لملفات فساد كان يمكن أن تطال بوتين.
من سيحكم روسيا؟
السؤال في هذه الفترة الزمنية الروسية هو: من سيحكم روسيا؟
بحسب الدستور، يحدّد الرئيس التوجهات الأساسية لسياسة الدولة الداخلية والخارجية، يعين بالاتفاق مع مجلس النواب (الدوما) رئيس الوزراء، ويملك حق ترؤس اجتماعات الحكومة. يحق له إقالة الحكومة وحل مجلس النواب. هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، يُقرّ العقيدة السياسية للبلاد، ويعيّن أعضاء القيادة العليا للقوات المسلحة ويقيلهم، فضلاً عن صلاحية إدارة السياسة الخارجية للبلاد... إلخ.
أما رئيس الوزراء (بوتين)، فيتولى بالتنسيق مع مجلس النواب السلطة التنفيذية لروسيا الاتحادية، إلا أنه يمكن مجلس النواب أن يسحب ثقته من الحكومة. وفي هذه الحالة، يمكن الرئيس أن يقيل الحكومة أو يعارض قرار النواب. كما يحدّد التوجهات الأساسية لنشاط الحكومة. ويحظى رئيس الوزراء بالنفوذ الكامل على السياسة الاقتصادية، وبالتالي على الغاز والنفط، وهما العنصران الأساسيان للقوة الروسية الجديدة.
لم يتفق بوتين وميدفيديف على كيفية تقاسم السطة في العلن، مكتفيين بالظهور أمام الكاميرات بالثنائي المنسجم إلى أقصى درجة. فهذان الرجلان اللذان عملا معاً نحو 20 عاماً، بدءاً من سان بطرسبورغ، استطاعا أن يتوصلا إلى صياغة علاقة مميزة. إلّا أن التاريخ الروسي يظهر أن قاطن الكرملين، بغض النظر عن هويته، تستهويه ممارسة السلطة.
تطبيقاً للدستور، يعد ميدفيديف الأقوى في الدولة، وخصوصاً أنه يمتلك حق إقالة رئيس الوزراء.
لكن بوتين خلال رئاسته، استطاع السيطرة على البرلمان والمحاكم ووسائل الإعلام. هذه الحقائق لا يمكنها أن تلغي أن ميدفيديف ليس رئيساً من فراغ، وسيعرف قيمة العرش.
يغادر بوتين مكتبه بمخزون هائل، إذ يمتلك امتيازات مؤسساتية تجعله رئيس الوزراء الأقوى في التاريخ الروسي، وخصوصاً أنه بات رئيساً لحزب روسيا الموحدة المسيطر على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يتيح له إقالة أي موظف، وتعطيل عمل الحزب، والسيطرة على مجلسي البرلمان، وبالتالي إقالة الرئيس والحكام الإقليميّين. وبمعنى آخر سيتمكن من تنفيذ بيروقراطيته ومواصلة السيطرة على جميع الشركات التي تضم مناصريه أصلاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه، يندرج في خطة يعتمدها بوتين للتمكن من السيطرة على مفاتيح السلطة خلال رئاسة ميدفيديف، حتى يستطيع استعادة عرشه، في ظل إمكان إجراء انتخابات رئاسية جديدة في عام 2010، وتمديد فترة حكم الرئيس من أربع إلى سبع سنوات.
في كانون الأوّل الماضي، قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إن ميدفيديف «رجلٌ ذكي جداً، وينتمي إلى جيل آخر». من هنا، تطرح تساؤلات عن ماهية شكل الدولة في عهده. فهل سيكون رئيساً فعلياً للبلاد في ظل امتلاكه فريقاً صغيراً، فيما بوتين محاط بدعم صقور الجيش والاستخبارات السوفياتية سابقاً.
يرى الدبلوماسيون والمحلّلون أن ميدفيديف سيلتزم سياسات سلفه الخارجية التي لاقت استحساناً داخلياً في مقابل استهجان غربي، وخصوصاً أنه لم يمارس السلطة الخارجية بصورة مباشرة في الماضي، رغم قربه من بوتين. أمل الكثيرين مرهون بالأسلوب المنفتح نحو الغرب، الذي أعرب ميدفيديف عنه بصورة خجولة من خلال قوله إن «الحرية أفضل من غياب الحرية»، مشيراً بذلك إلى خطأ سيطرة الدولة على وسائل الإعلام. إلا أنه لم يتمكن حتى الآن من تظهير ذلك بصورة عملية.
يدرك ميدفيديف أن عرش السلطة يفرض على صاحبه تقمصها، وخصوصاً أن صورة الرئيس الضعيف أو التابع لا تليق برجل ذكي مثله يرأس شركة «غازبروم النفطية». ويعرف أيضاً أن محاولة التفرّد بالسلطة انسجاماً مع صلاحياته الواسعة سعياً نحو التفوّق على بوتين، سيضعف البلاد مجدداً ويدخلها في نزاع سياسي داخلي قد يستغله الغرب لمصلحته، فيدعمه بهدف تقليص الشبح الروسي ذي النكهة السوفياتية، التي لا يخفى على أحد سعي بوتين إلى طهوها مجدداً وتحويلها إلى يخنة دسمة. كما أن محاولة ميدفيديف للتمرّد ستصطدم حتماً بجناح بوتين الممتد نحو «كلّ مكان». ويبقى البديل بالنسبة إليه في محاولة تكريس ثنائية بوتين ـــــ ميدفيديف، وإن كانت تحت سلطة الأوّل، إيماناً منه أنه لو كان هناك إلهان، لتصارعا على العرش. لذا ليس هناك إلاّ إله واحد. اللّهم إلا إذا تدارك القيصر الجديد إحدى الثُّغَر البوتينية.


موسكو تستعيد العروض العسكرية السوفياتية

تستأنف روسيا مجدداً بعد غدٍ الجمعة، عروضها العسكرية الكبيرة التي اعتادت تنظيمها في عهد الاتحاد السوفياتي السابق، أي قبل 18 عاماً، بهدف إبراز قوتها في مواجهة قدرات «المعتدين الامبرياليين». وأكد الرئيس الروسي المنتهية ولايته فلاديمير بوتين، أمس، أن روسيا «ستظهر قدراتها» في مجال الدفاع في العرض العسكري، مشدّداً على «أننا لا نهدّد أحداً. إنه عرض لقدراتنا المتزايدة في مجال الدفاع». وفي ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية في روسيا في التاسع من أيار الجاري، يزحف آلاف الجنود على الساحة الحمراء كما كان يجري سنوياً. إلاّ أن الدبابات وغيرها من العتاد الثقيل الذي غاب عن الاستعراضات السابقة، ستعود هذه السنة.
وعلى غرار ما كان يجري في عهد السوفيات، سيسلك الرجال والعتاد جادة تفرسكايا الكبيرة قبل دخول الساحة. ويجري في الختام عرض آخر الصواريخ الاستراتيجية الروسية الهائلة من طراز «توبول ـــــ أم».
ويحضر العرض الرئيس الجديد ديمتري مدفيديف، بعد يومين من تنصيبه، ومعه سلفه بوتين، كما أفاد الكرملين، من دون أن يوضح إذا كان المسؤولان سيتابعان العرض من ضريح لينين كما كان يفعل قادة الاتحاد السوفياتي.
آخر عرض للدبدبات كان في عام 1990. وقبيل عام من انهيار الاتحاد السوفياتي، بدا أن الصفحة طويت نهائياً حتى عام 1996، حين أعيد بناء «بوابة البعث» التي تغلق أحد الطرق المؤدية الى الساحة الحمراء. ومع أن الرئيس السابق بوريس يلتسين أعاد إحياء العرض بصورة رمزية عام 1995، لمناسبة الذكرى الخمسين للانتصار على النازية، جرى العرض حينذاك من دون أسلحة ثقيلة. وفي السنوات التي تلتها، كان التركيز على الجانب التاريخي من الاحتفال، وتكريم قدماء المحاربين.
وأوضح المتحدث باسم وزارة الدفاع، أولغ يوجكوف، أن فلاديمير بوتين أمر في صيف 2007 بالعودة إلى أسلوب ما قبل عام 1990، «تلبية لرغبة قدماء المحاربين والمجتمع المدني الذين دعوه إلى استئناف العرض كما في العهد السوفياتي».
اليوم، وبينما يسيطر على موسكو هاجس استعادة مكانتها السابقة كقوة عظمى تحذّر باستمرار من زحف حلف شمالي الأطلسي إلى حدودها، تهيمن رغبة في «استعراض القوة» خلال العرض. ويتساءل الصحافيون المستقلون مثل الخبير العسكري ألكسندر غولتس، عما اذا كان الأمر عبارة عن «مسألة علاقات عامة للكرملين».
(أ ف ب)