للفوضى استبدادها. كما أن للاستبداد فوضاه. هذا قانون تحتي يتحرك تحت سطح الاستقرار في مصر. إنها ملامح لا تخفى على الذين يلاحظون تجاور المتناقضات بشكل غير فعّال. لا يحكمها سوى قانون الفوضى طويلة العمر
وائل عبد الفتاح

قدر «الطوارئ» سلطة أسطورية لا يراها الناس لكنها ترى أفعالها. تشعر بها فوقها وخلفها ومن أمامها. هذه صورة شجعت القاتل على استخدامها للهروب من التهمة. وهو الآن مسجون في مستشفى الأمراض النفسيّة.
لم يصدق أحد التهمة طبعاً. لكنها حكاية عن الشعور بالقوى العلوية والمتضخمة للأمن. وفي حالة القاتل المجنون، اختار الجهاز السيادي البعيد عن التعامل اليومي. لكنّ رجلاً على مقهى، وفي حوار سياسي، قال «يمكن أن أصبح رئيساً للجمهورية. وساعتها سأعلن فوراً منع التجوال بعد العاشرة». الرجل يتحدث بلهجة ساخرة. ويستعرض أمام زملاء جلسته في المقهى قدراته المنسيّة في طاحونة عمل يومي لا يعترف بمواهبه. علت نبرته وهو يؤكد أنه جدير فعلاً بمنصب الرئيس. فهو على الأقل من الناس ويعرف مشاكلهم. ولن يترك اللصوص وعصابات الفساد والانحلال تلهو على مزاجها في الشوارع. لكنه سيحدد إقامتها في البيوت ليتحكم في حركتها ويمنعها من ممارسة البغاء السياسي والجنسي.
الرجل يرى أن رئيس الجمهورية لا بد أن يعلن حظر التجوال لينظف البلد على راحته. التغيير في رأيه يرتبط بمزيد من الأمن. والرئاسة المنتظرة هي توجيه للأمن باتجاه اللصوص وسارقي قوت الشعب. الأمن هو الطريقة الوحيدة لحكم البلد، هذا ما يجتمع على رؤيته السلطة والشعب الذي تفصّلت تربيته على أن الأمن يعلو ولا يعلى عليه. وهذا ما يجعل خبر تمرير قانون الطوارئ خلال أيام ليس صادماً، رغم أن الرئيس حسني مبارك قال في حملته الانتخابيه إن القانون سيلغى في أيار ٢٠٠٨ أو حين يقرّ قانون الإرهاب. لكن النيّات تقول إن مبارك سيدفع بقانون الطوارئ ليوافق عليه مجلس الشعب قريباً جداً أو سيعد بشكل متعجّل قانون الإرهاب ليبدو النظام ديموقراطياً، وإن كانت النسخ المعلنة من قانون الإرهاب أعنف وأشد قسوة من القانون الذي يحكم مبارك به مصر من اليوم الأول لتوليه السلطة.
رسمياً هو القانون رقم ١٦٢ لسنة ١٩٥٨، والمفارقة أنه القانون الذي يحكم مصر من ليلة الهزيمة في ٥ حزيران ١٩٦٧. أعلنه الرئيس عبد الناصر وتبعه أنور السادات وألغاه فقط في أيار ١٩٨٠ لكنه أعلن من جديد يوم ٦ تشرين الأول ١٩٨١ بعد اغتياله ومن يومها وحتى الآن وهو مستمر. لم يتوقف عن العمل إلّا ١٨ شهراً. ويعدّ القانون امتداداً للأحكام العرفية التي لم تتوقف منذ نكبة ١٩٤٨، والتي كان آخرها بعد حريق القاهرة في كانون الثاني ١٩٥٢.
علاقة ترابط قوي بين هزائم النظام العسكرية والسياسية وإعلان حال الطوارئ. النظام السياسي في حال توجّس أمني دائم مصدره الأول العدو الخارجي: إسرائيل. وأعداء الخارج المتربصين بنظام في مرحلة صعوده (الملك فاروق في عز رغبته ليصبح خليفة للمسلمين وعبد الناصر زعيم الأمة العربية، ثم السادات المتحوّل من الحرب إلى السلام بقفزات حرقت مراحل تاريخية كاملة). لكن مبارك بنى شرعية الطوارئ على أعداء من الداخل. الجماعات الإسلامية المسلحة التي اغتالت رئيس ودبرت انقلاباً عسكرياً للاستيلاء على الحكم بعد لحظات من الاغتيال. هذه شرعية مستمرة وخالدة. رغم نجاح أجهرة الأمن في القضاء على الجماعات الإسلامية واعتقالها بعد موجات من التصفية في الشارع خارج القانون وفي حرب مفتوحة استخدمت فيها كل الأساليب لينتهي خطر الإرهابيين الإسلاميين بشكل كبير ويخرج جهاز الأمن منتصراً بنشوة لم ترجعه إلى حجمه السابق، لكنها جعلته جهاز الحكم. يدير السياسية بمنطق إلغاء السياسة. وله ظهير سياسي: الرئيس الذي يعظم من أمنه الشخصي ومشروعه السياسي الوحيد هو الاستمرار والبقاء. وهناك ظهير احتياطي: الحزب الوطني الذي من مصلحته إلغاء السياسة. فهو نادٍ لتجمع المصالح تحوّل إلى أداة للسيطرة. والسيطرة، في مفهوم يحكم بالأمن والطوارئ، تطرف ولم يعد يعني الحصول على الغالبية، بل الاستحواذ على كل المقاعد وترك نسبة ضئيلة جداً لديكور سياسي في مواجهة العالم. لم تعد مقبولة الآن المنافسة.
من هنا الطوارئ مهمة، فهي تمنح الرئيس حق إلغاء الحياة السياسية تماماً. وموافقته على إتاحتها بشكل ما، هو منحة يستطيع التراجع عنها في أي وقت. والأمن لن يعمل بكفاءة يريدها النظام، إلا مع قانون استثنائي يلغي أو يعطل القوانين. الأمن لا القانون هو المهم. والطوارئ هو دستور نظام تكيّف على الحياة بهذه الطريقة المعتمدة على استبعاد المختلفين سياسياً. الولاء الكامل هو الشرط غير المعلن. والمواطن هو العدو الذي يجب السيطرة على نزواته في الخروج عن الطاعة. السيطرة عليه بإقناعه بأن الأمن هو الحل والطوارئ هي الاستقرار، وأن المطالبين بالديموقراطية هم خارجون على القانون.
منظمات حقوق الإنسان وحدها أصدرت بيانات ضد الطوارئ. الحياة السياسية لم تتحرك تقريباً. صمتت. تعودت أنه سيمر. ويمدد له، فقد أصبح قدر الحياة السياسية في مصر.

النموذج السعودي
الأمير، بطل قصّة إلغاء الخمر، قريب من العائلة المالكة في السعودية ويملك قنوات تلفزيونية. كان بطل ما سمّي وقتها «فضيحة على النيل» في التسعينيات، حين اتهم مسؤول في التلفزيون المصري بتسهيل علاقة الإبراهيم مع نجمة تمثيل وقتها.
الفضيحة انتهت بعزل المسؤول (حصل على سيارة «مرسيدس») ووصفه الحكم القضائي بالقوّاد، وزواج الأمير والنجمة لسنوات ثم الانفصال. الفضيحة نسيت الآن، لكن الأمير عاد إلى الأضواء بثورته على الخمور. ثورة لها طابع إعلاني. فالرجل لم يقرر بيع الفندق، لكنه خرج عن اتفاقه مع الشركة صاحبة العلامة التجارية وكأنه راديكالي فرض قانونه بالقوة ليجعل فندقه خالياً من الكحول. من حقه الشخصي، لكن الفندق مكان عام. بين أصحابه ومستخدميه عقد اتفاق لا يصح خرقه بدافع «تطهيري»، كما بدا من حركة الأمير. كما أن سلطات السياحة في مصر اعتبرت نفسها غير معنية؛ فالأمير حر في فندقه، وهو ما لم يكن ليحدث أمام مشكلة أخرى بعيدة عن موضوع حساس مثل الخمور. وهي حساسية لها بعد سياسي.
فالنموذج السعودي انتصر في مصر. وعلى حد الوصف «ترفع الوهابية راياتها غير المرئية في كل مكان». ويكفي النظر إلى شكل المصريات ولافتات المحال لاكتشاف أن المعركة التي بدأت بين الثقافة المصرية والهجمة الوهابية حسمت لمصلحة ثقافة الصحراء الغارقة في النصوص المغلقة والمهووسة بالشكل.
المعركة الثقافية كانت غطاءً لحرب سياسية على وراثة الأمبراطورية العثمانية. استمرت الحرب وأخذت أبعاداً جديدة مع وصول جمال عبد الناصر، زعيم الانفلات من الغرب، وصدامه مع الملك فيصل، السياسي المحنّك في دولة اعتمدت على التحالف مع القوة العظمى في العالم (إنكلترا ثم أميركا). المعركة استمرت، وكانت الوهابية تقتسم السلطة مع عائلة آل سعود، التي هزمت أمام جيش عبد الناصر في اليمن (١٩٦٢). لكنه عندما هُزم أمام إسرائيل في حزيران ١٩٦٧، انسحبت الوهابية مع جيوش الهزيمة وتسرّبت عبر المصريين المهاجرين إلى السعودية، الذين يرون فيها نموذجاً لدولة قامت على البركة (صعود النفط كثروة طبيعية من دون مجهود) ويطبقون «تعاليم» الإسلام بالقوة. قوة ربطها الباحثون عن ثروة شخصية بأنها السبب وراء انتصارهم وهزيمة مصر، التي كانت تريد تنفيذ مذاهب غريبة (الاشتراكية).
عودة «الإخوان» مع أنور السادات، وبالاتفاق معه، لضرب اليسار، ساهم في تقوية الانبهار المصري بنموذج البركة السعودية. تغيرت ملامح مصر بالتدريج واختفت تعدديتها لمصلحة نموذج واحد. وأصبح الهجوم على رموز التعدد هدفاً يجمع ثلاث قوى. أولاها «الإخوان المسلمون». وثانيتها القوى المحافظة المضطهده اجتماعياً، والتي تستمد قوّتها من محاربة أشكال الترف أو ما يظنونه خروجاً عن التعاليم الدينية، هؤلاء عادة من موظفين فقراء يستجمعون قوتهم من شيء غير القانون، فيعاندون من يطلب رخصة بيع الخمور ويلحّون ليلغوا كلمة «بار» ويستبدلونها بالكافيتريا. ويتصوّرون أنهم انتصروا في المعركة وأنهم أخلصوا لضميرهم ضد النظام «الفاسد أخلاقياً».
القوة الثالثة التي ساهمت في انتصار النموذج السعودي هي وكلاء مباشرون (في العلن أو السر) لشبكة من الإعلام يسيطر عليه المال السعودي. راجت معه أشكال غريبة، أهمها قائمة ممنوعات تمنحها شرعية التحدث عن الإسلام. فمن يمنع ويصادر له شرعية إعلان الحدود وإعلان المسموح والممنوع. لا فرق هنا بين مغامرات الأمير وليد بن طلال المغرم بأميركا وأسامة بن لادن الثائر عليها. كلهم حزمة واحدة يجمعون بين المال والتحدث عن نظام «إسلامي» يريد السيطرة لمصلحة فكرة نائمة في الجزيرة العربية لا تعتبر الخمر حرية شخصية وتهتز من طول فستان المرأة وتقيم حاجزاً للحريم.
هذه هي القواعد التي إذا خرج عنها الأمراء يصبحون إصلاحيين وديموقراطيين، وإذا تمسكوا بها أصبحوا إرهابيين. لكنها القواعد الخاصة بثقافة القبيلة ذات العقل الواحد والصورة الواحدة. هذا هو النموذج السعودي المنتصر الآن.
الأمير الثائر على الخمر يلقى تأييداً شعبياً ينسي مغامراته الأخلاقية ولا يفكر في قانون التعاقد. وينسى أساساً من أين حصل على ثروة تمكّنه من رمي ٨ ملايين جنيه خمور في البحر. سيادة العقلية المبهورة بالبطولات الأخلاقية هو أول انتصار للنموذج السعودي، الذي يرى أن الحكم هو إعلان طاعة كاملة وتنازل عن الحق في السياسة وأعمال القانون، في مقابل السماح بالرقابة الأخلاقية التي تضمن الاستقرار.
من هنا، فالنموذج السعودي محل إعجاب مشترك من السلطة وشرائح اجتماعية متعددة في مصر. إعجاب لا يخلو من لعنة. يلعن الناس ترف الأمراء الذين يقيمون خلف أسوار قصورهم أساطير الفساد، لكنهم في العلن يلتزمون بالحدود. ويلعن نظام حسني مبارك السعودية في الحجرات المغلقة فهي تشتري وجودها بالمال.
بين الانبهار واللعنة، يبدو نجاح النموذج السعودي في مصر ملخصاً لمرحلة كاملة في السياسة والمجتمع؛ فالنخبة المعترضة على الانتصار تعلن الهزيمة بسهولة. والشوارع في مصر تتحول إلى مسوخ مشوّهة بين ثقافة الكوزموبوليتان في عهد الاستعمار والمزاج السعودي في صورته الجافة والغليظة أحياناً.

المحميات السياسيّة الصراع فتح ملف ظاهرة تطرح نفسها بقوة، وهي أن رجال الأعمال هم محميات سياسية. ظاهرة قديمة، لكنها الآن تبدو كما لو كانت محل نظر. نظام الرئيس حسني مبارك جعل من بعض رجال الأعمال محميات ممنوعاً الاقتراب منها. والمحميات أنواع. عمومية إلى حد ما، وتشمل رجال أعمال مستفيدين من الظل السياسي لكبار النظام. وخاص بكل متنفذ يصنع شلة أصدقاء يحتمون به. والمحمية الكبيرة تتبع الرئيس مباشرة، وربما عائلته. أشهر المحميات السياسية وأقدمها يسكن خلفها حسين سالم، أكثر الشخصيات غموضاً في مصر. المعروف عنه قليل جداً: زميل مبارك في سلاح الطيران فقط. والمحكي عنه أطنان: هو شريك مبارك في أعمال تجارية (يقال إنه مدير أموال مبارك في مشروعات داخل مصر وخارجها أو هو واجهة تجارة مبارك).
شائعة، لكنها تعتمد على حكايات أقدم جعلت الرجل الغامض مصدر ثقة الرئيس. الحكاية وردت في كتاب «الحجاب» لبوب ودوورد، مفجر فضيحة «ووتر غيت» الشهيرة، الذي تحدث عن شركة «الأجنحة البيضاء» التي تم تسجيلها في فرنسا، وهي كانت المورد الرئيسي لتجارة السلاح في مصر، وأن هذه الشركة تتضمن أربعة مؤسسين هم منير ثابت (شقيق سوزان مبارك) وحسين سالم وعبد الحليم أبو غزالة (وزير الدفاع المصري آنذاك)، ومحمد حسني مبارك (نائب رئيس الجمهورية وقت تأسيسها).
الشركة تعرضت لاتهامات قضائية في أميركا، لكن حسين سالم أبعد مبارك لحساسية موقعه السياسي. وبعدها، بدأ اسم حسين سالم يتردد في نشاطات اقتصادية ذات طبيعة حساسة بداية من شركات البترول وبناء منتجع شرم الشيخ، حيث ينظر لحسين سالم هناك على أنه الإمبراطور غير المتوج للمدينة التي تُعَدّ «نموذج مدينة نظام مبارك الهارب من العاصمة».
الإمبراطور يستضيف الرئيس، واسمه يطرح عادة بكثافة، غموض بدأ يتكشف فقط منذ سنتين، حين أصبح في مرمى الأهداف العلنية للصحافة والمعارضة إلى درجة أن المعارضين لصفقة الغاز إلى إسرائيل، وحسين سالم هو محتكرها، طالبوا بالتحقيق معه أمام النائب العام. هذه إشارات إلى أن منافسين أخرجوا حسين سالم من المحمية الأصلية المغلقة إلى العلن ليحرقوه. آخرون فسروا أنه ضحية يريد النظام أن يقدمها للغاضبين من الشعب، وهو ضحية كبيرة لا ينافسها إلا أحمد عز، وهو محمية أخرى خاصة. الأيام المقبلة ستكشف من سيخرج من المحميات السياسية لنظام مبارك. ومن سترفع عنه لافتة ممنوع الاقتراب. وهو قانون يشبه الإعدام في عالم المحميات السياسية.