كما في بيروت وقرى لبنان، كذلك في برلين والمدن الألمانية. عطلة أسبوع مرهقة ومتعبة قضاها اللبنانيّون في ألمانيا، يتقلّبون على نار الأحداث الدامية التي تعيشها قراهم، ويقلّبون داخل منازلهم محطّات التلفزة العربيّة التي توفّرها لهم الأقمار الاصطناعيّة
برلين ـــ غسان أبو حمد

مع توسّع رقعة القتال وانتقال الأحداث من العاصمة بيروت إلى بقية المحافظات اللبنانية، وتحديداً مدن شمال لبنان وقرى جنوبه وجبله، اشتغلت هواتف اللبنانيين في ألمانيا للسؤال عن أسماء القتلى والجرحى.
كل لبناني، وخاصة من الجيل الذي عرف مآسي جولات الحروب الأهلية السابقة، يتوّقع وصول النار إلى أهله. ويكون محظوظاً من يحالفه الحظ ويتلقّى خبراً عن قريته، فيأخذ المبادرة وينقل ما يحدث إلى بقية الأهل والأصدقاء المنتشرين في ألمانيا.
كان من البديهي أن تنقل «رابطة المغتربين اللبنانيين» إلى أبناء الجالية اللبنانية والعربية، خبر إلغاء المحاضرة التي كان سيلقيها مساء اليوم مطران الروم الأرثوذكس جورج خضر لعدم تمكّنه من مغادرة لبنان بسبب إقفال طريق مطار بيروت وتوقّفه عن العمل.
وشكّلت أحداث القتال الأهلي في طرابلس وقرى عكار الوجع الأكبر، لأنّ عدداً كبيراً من اللبنانيين في ألمانيا يتحدّرون من هذه المناطق.
جورج دياب أمضى ليل البارحة بكامله يسأل عن مصير عائلته في قرية عدبل القريبة من حلبا التي وقعت الأحداث الدامية بين أبنائها. ويبرّر جورج خوفه بالإشارة إلى أنّ أبناء قريته المسيحية ينتمي معظمهم إلى أحزاب عقائدية بعيدة كل البعد عن انتماءات مذهبية وطائفية تتحكم بحركة القتال الأهلي.
أما سامر قطيش فقد أمضى الليل يسأل عن إخوته المفقودين في مدينة طرابلس، ويتوقّع وصول خبر إصابتهم في الأحداث الدامية بعد مشاهدته على شاشة التلفزة احتراق أحد المكاتب الحزبية القريبة من منزله في أحياء عاصمة الشمال.
يقول جورج، الذي يدير مطعماً لبنانياً في برلين، «بعد سماعنا بمقتل عناصر من الحزب السوري القومي الاجتماعي وإحراق مكاتب أحزاب عقائدية أخرى في طرابلس وبقية قرى الشمال، ازداد خوفنا على أهلنا». ويتذمّر من أنّ الشائعات «تنتشر بسرعة هنا في برلين، فقد جاء من يفيدنا بأنّ أعمال القتل والتشويه طالت الجرحى في مستشفيات عكار والشمال، وخاصة أولئك الذين جرى نقلهم إلى مستشفى رحّال». كما يلفت إلى أنّ شائعات انتشرت عن أنّه «تمّت تصفية بعض الجرحى داخل المستشفى المذكور، وعلمنا بأن الجيش اللبناني لم يتمكن من التدخل لوقف هذه المجازر».
ويتابع جورج «نحن نعيش حالة خوف كبير، ونتوقع وصول خبر عودة القتال في أي لحظة». وفي السياسة، يرى أنّ «أهداف هذه المؤامرة واضحة، ونحن لا نطلب أكثر من الانتباه إلى مخاطرها، فنحن نعيش في دورة حياة كاملة مع قرى عكار المجاورة، وتحديداً مع حلبا وسواها».
وما زاد في حدّة الهموم، انقطاع وسائل البثّ التابعة لتيار «المستقبل» وبالتالي انقطاع «الرأي الآخر» عن الوصول إلى عموم اللبنانيين في ألمانيا، وهذا ما جعل معظمهم عرضة لهيمنة الإعلام السعودي الذي يرى البعض في ألمانيا أنه قدّم صورة منحازة للتطوّرات الميدانية. ويرى سامر قطيش وفيصل الترك والعديد من أبناء طرابلس الذين يعملون في برلين، أنّ «هذا الجانب من البثّ الدعائي أدّى دوراً تحريضياً، وأنّ الحضّ على الاقتتال الطائفي قد ولّى زمنه ولم يعد بالإمكان التغرير بالشباب ودفعهم للاقتتال».
وشهدت مدرسة «الرابطة» لتدريس اللغة العربية، والتي تشرف عليها «رابطة المغتربين اللبنانيين» في برلين، اجتماعاً موسعاً للأهالي قبل ظهر السبت، حيث ركّز مدير المدرسة حسن حكم على أهمية التضامن بين اللبنانيّين وضرورة إبعاد أبنائهم عن المرض الطائفي، لافتاً إلى «أهمية الالتفاف حول الوطن وقضيته في هذه الظروف التي يتعرض فيها للمزيد من التقسيم والتفتيت». ودفع هذا الأمر بالأهالي الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف والمذاهب للمبادرة تلقائياً إلى إطلاق النشيد الوطني اللبناني.
وإلى هذه الهموم، تضيف غيلدا كيروز، همّاً آخر، هو غياب السيادة والاستقلال منذ فترة طويلة عن لبنان. وتشير غيلدا إلى أنها من بشري في شمال لبنان، وأنها كانت تتحضّر لزيارة الأهل هذا الصيف، لكنها ستبقى أمام شاشات التلفزة «أقلّب القنوات لمعرفة تطور الأحداث، فها هو ابني وائل (12 عاماً) يسألني في كل لحظة لماذا أشاهد أفلام القتال»، فهو لا يعرف أنّ ما تتابعه والدته على الشاشة هو أحداث حقيقية تجري في لبنان، وأنّ هذا القتال ليس فيلماً بوليسياً باللغة العربية: «لا أعرف كيف أخبره أن هذا القتال يجري في الوطن الذي يرغب بزيارته، كل ما أرغب فيه حالياً هو زرع محبة الوطن في قلوب أبنائنا الذين يتحدثون اللغة الألمانية ويمنّون أنفسهم بزيارة القرى اللبنانية... فهنا في برلين، يتعلمون على الانضباط والنظام واحترام الوقت، فماذا نقول لهم؟».
أمّا الشباب اللبنانيون في ألمانيا، فاللامبالاة هي الصفة العامّة لديهم. نادين (23 عاماً)، المتحدرة من والد لبناني وأم ألمانية، تكاد لا تصدق ما تراه على شاشات التلفزة. وتسأل باللغة الألمانية «هل والدي من هذه البلاد التي تحرق الدواليب في الطرقات... هل هكذا تحافظون على البيئة في لبنان؟». هنا لا تجد إجابة وافية ومقنعة عن أسئلتها، بينما تصرّ شقيقتها ندى (13 عاماً) على التوجه إلى الحديقة العامة المجاورة لمنزلها في برلين، للتمتع بمناخ صيفي جميل، يشبه ذلك المناخ الذي عاشته يوماً من الأيام عند جدّتها في قرية بلّونة في قضاء كسروان.