بوش في مصر، بالتحديد في شرم الشيخ، جنة الرئيس حسني مبارك المعزولة عن مصر. بوش في مصر العالمية، ومبارك، الذي خطط لاستعادة هيبة نظامه في مصر القديمة، سيستقبله بقوة كرئيس دائم يودع رئيساً عابراً قضى سنواته وسيعود إلى مقاعد المتفرجين
وائل عبد الفتاح

ربحت العالم وخسرت نفسهاالانفتاح الاقتصادي تزامن مع «الغزو الأميركي»، كما سمي في أدبيات رفض هذه الطريقة في ترتيب العلاقة مع الولايات المتحدة. الرفض ظلّ ضعيفاً في مقابل الرغبة العارمة لنظام السادات، وبعده مبارك، في الدخول تحت الرعاية الأميركية، شرط الدخول كدولة كبيرة لها دور. ساعد في اكتساح الرغبة الرئاسية أحلام شعبية بالتخلص من فقر الحروب، وسياسية للتخلص من زمن الحزب الواحد والنموذج السوفياتي في الحكم.
الواقع الآن هو انتقال مصر من خط مواجهة مع أميركا في الستينيات إلى دولة يمكن اعتبارها تحت تحكم بما يقترب من الوكالة غير المباشرة عبر المعونة والدعم السياسي، وربما العسكري، لتغادر خط المواجهة وتجلس في الصف الأميركي بجوار دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، التي كانت عدوة مصر الناصرية، وبالقرب من إسرائيل العدوة التاريخية. بل إن مبارك، كبير الدول العربية، أرسل إلى إسرائيل برقية تهنئة بالذكرى الستين لتأسيسها، وهي برقية تتجاوز حدودها البروتوكولية إلى اعتراف بمفهوم إسرائيل وتعريفها لأحداث تاريخية مرتبطة بوجودها في المنطقة وتتباين في فهمها مع مصر، منها الحرب في فلسطين ووعد بلفور والحق التاريخي في الأرض.
وقّعت مصر اتفاقية تنهي الحرب الآن. لكنها لا تعيد النظر في تصورات الدولة المصرية. قد تكون مفاهيم عبد الناصر وأصحاب المزاج القومي متطرفة في إلقاء إسرائيل في البحر. لكن هذا لا يعني التنازل عنها. وهو تنازل يلغي المجتمع والحوار فيه ويتحرك بإيقاع استبداد سياسي. فكما فرض الحرب على الناس يفرض الحرب رغم أن السلام مفهوم ديموقراطي وله أرض شاسعة، ليس منها التسليم بصحة مفاهيم إسرائيل عن التاريخ القريب والبعيد، ونقل أفكارها وصورتها عن نفسها من موقع الرفض الكامل إلى القبول الكامل كما يفهم من برقية مبارك.
إلّا أن المنطق نفسه الذي جعل حكومة مبارك توافق على إقامة مصنع لشركة «أجريوم» الكندية لإنتاج الأسمدة، وهو مصنع قاتل كما يراه أهل جزيرة رأس البر، ينطبق على العقلية التي تدير علاقة مصر مع العالم. عقلية مستبدة لا تضع المجتمع في حسابها. الاتفاق مع العالم حقيقة نهائية مطلقة لا تحتاج إلى نقاش أو حوار، بينما الاعتراض عليها خروج عن النص وسبب لتغريم الدولة ٥٠٠ مليون دولار تطلبها الشركة الكندية تعويضاً عن المشروع المرفوض.
التغيير هنا هو دخول المجتمع المدني على الخط ومحاولة إعلان وجوده ودفاعه عن مصلحته المباشرة ضد التلوث.
لكن النظام والحكومة يعتمدان على السرية في الاتفاق مع الشركة الكندية على غرار الاتفاقية مع إسرائيل. الخوف من الخسارة أو فقدان العالم يدفعان إلى التنازل عن أصوات الداخل. تناقض يكشف عن ضعف وعن أن مصر، وهي تخرج من الانغلاق إلى الانفتاح، كان ذلك يعني بالنسبة إلى نظامها القبول بالحد الأدنى الذي لا يمس استمرار النظام ولا يخرق قواعده البيروقراطية. أما ما دون ذلك فقابل للتنازل والبيع.
هكذا اندرجت مصر في العالم وحجزت لنفسها مساحة ودوراً بتعطيل دورها القديم، وأصبحت علاقتها بالعالم خطراً على شعبها. فبعدما كانت الدولة المغلقة سجناً، تحولت الدولة المفتوحة إلى سوق كبير.


«ديناصور» يلتهم البهجة ويرفع ضغط الدم

«سلّفني... شكراً» أحدث عرض من شركات الهاتف المحمول في مصر. ثورة وانقلاب بحسب الشركة. فملايين المصرييّن يلهثون وراء بهجة التلفون باعتباره الحصن الأخير عند شعب ينافس على المرتبة الأولى في ارتفاع ضغط الدم

الجمعية الطبية المهتمّة بمرض ارتفاع ضغط الدم، أعلنت قبل أيّام أنّ ربع المصريّين مصابون بهذا الداء. والتفسير هو مفاعيل الأزمة الاقتصادية. تفسير سياسي لا يكفي لشرح ما حدث للمصريين. فهذا الشعب المهووس بالنكتة، استبدل المواجهة مع حكامه وظالميه بالسخرية. الإحصاء الرسمي الأخير لسكّان مصر أُعلن أمس، وكشف عن ارتفاع العدد إلى أكثر من ٧٨ مليون نسمة. الرقم ضخم. وتشير الحكومة إلى أنّه سبب الأزمات، رغم أن دولاً أخرى مثل الصين والهند تستغلّ العدد الهائل للسكّان على أنه مخزن للقوى البشرية.
لكن مصر اليوم ليست مصر واحدة، كما قال شاعر العامية الشهير عبد الرحمن الأبنودي. مصر تتابع انهيارات البورصة بشكل مذهل بسبب التخبّط في قرارات الحكومة وإشاعة خبر فرض ضرائب على حصيلة البورصة.
انهيارات وبيع هستيري خوفاً من الحكومة. لم تصل هذه الأخبار إلى مصر أخرى يعيش سكّانها من دون مياه شرب نقية (أكثر من مليون ونصف مليون أسرة).
العنوسة ترتفع ما يقرب من ٢٩ في المئة من الذين وصلوا لسن الزواج. العاطلون عن العمل يناهزون ٣٩ في المئة، والأمّيّون زادوا بنسبة ٢٧ في المئة. وحتّى تكتمل الدائرة، رصد تقرير آخر عن اتحاد الصحافيين العرب، التراجع في حرية الصحافة. لهذا، لم تعد النكتة كافية وضغط الدم هو علامة عليا لانهيار في أجهزة المقاومة القديمة التي تشعر بالرضى لأنه لا أحد في مصر ينام من غير عشاء. الأبنودي قال إنّ هناك من ينام من دون طعام الآن. الدم المحروق إعلان عن وصول الحالة المصرية إلى نقطة الخطر. ولم يعد الأمر مجرّد اكتئاب (يصيب الآن حسب تقديرات أطبّاء مشاهير أكثر من ١٢ مليون مصري).
أجهزة المناعة النفسية والجسدية، تتوقّف كما سخر طبيب مهتم بالسياسة. فالمصري يواجه كل صباح ركاماً كبيراً من حكايات وأخبار كئيبة ومرعبة من صنع الحكومة. النظام تضخّم وأصبح هو كل شيء وهو الحكاية الكبيرة التى ترسم حدود الحياة والخط الفاصل بين الحب والكراهية. النظام تحوّل إلى ديناصور يلتهم البهجة. أصبحت الحياة ديوان شكاوى وحفلات لطم الخدود من جبروت السلطة التي تلقي بالملايين خارج دائرة الاهتمام وتوزّع عطاياها على نادي المنتفعين من استمرار حكم الرجل الوحيد مستمرّة.


جنازة المحارب الوهمي للفساد

انتهى المدعي العام الاشتراكي. بشرى سعيدة أعلنتها صحف الحكومة لتقول إن أيام الانفراجة الديموقراطية مقبلة. فالمنصب سيلغى، ومعه محكمة العيب في القيم. وكلاهما من أجهزة خارج النظام القضائي الطبيعي

اخترع أنور السادات المدعي الاشتراكي سنة ١٩٧١ على نموذج المدعي العام الشيوعي ليقتل خصومه السياسيين ويقدمهم إلى محاكمات بتهمة الخروج عن النظام الاشتراكي الذي قتله بنفسه.
قُتل السادات والاشتراكية، لكن المدعي الاشتراكي استمر أداة سياسية للتصفية خارج القانون الطبيعي. وكذلك محكمة العيب التي أنشأها السادات سنة ١٩٨٠ عندما أراد أن يلغي قانون الطوارئ وملاحقة معارضي اتفاقية كامب ديفيد. الخيال السياسي استخرج المحكمة من مخازن القرون الوسطى وتحولت إلى فزاعة معارضة سياسته تجاه إسرائيل.
الآن نظام حسني مبارك أعلن قرب إلغاء المدعي والمحكمة. خبر مختلف عليه في القاهرة. فريق يرى أن هذه خطوة مهمة في إطار إلغاء القضاء الاستثنائي، وآخر يرى أن الإلغاء عملية تمويه لإمرار قرار أخطر ليس أقل من تجديد قانون الطوارئ أو اعتماد قانون الإرهاب أيهما أسوأ.
الأكثر خبثاً يرون السيناريو أكثر تعقيداً، ويتوقعون أن تعلن الحكومة بعد أيام إلغاء قانون الطوارئ، وبعد أيام تصدمهم بقانون الإرهاب. مسرحية مستوحاة مما حدث في علاوة مبارك.
وهناك خلاف آخر على قصة المدعي، فهو بالنسبة إلى بعض المؤمنين بالناصرية أداة الرعب للفاسدين. يستشهدون في ذلك بقضية فساد عائلة عصمت السادات في بداية الثمانينيات. إنها محاكمات تمت على نموذج مؤمن بالمال العام كما رسمته عقول الستينيات.
وهذه أوهام أبقت شعبية المدعي الاشتراكي بوصفه محارب الفساد. لكنه بعد استخدامه سياسياً لتصفية المغضوب عليهم من رجال الأعمال، لم يعد يشارك في معارك الفساد، الذي تحول إلى أقوى مؤسسة في مصر. لم يعد هو نفسه الفساد الصغير في عصر جمال عبد الناصر، موظف يرتشى أو مسؤول يفسد جهازاً كبيراً ويديره على هواه ومزاجه كما فعل صلاح نصر في جهاز المخابرات.
مع بداية عصر السادات وقوانين التحول من مجتمع اشتراكي إلى مجتمع السوق المفتوح، ولد «الفساد الكبير». فساد الشبكات بين شطار السوق والمسؤولين. مافيا تلعب بالقوانين والثروات الناعمة وتحتمي بالنفوذ. السياسة تحمي الأعمال لتبني الأسوار العالية حول إمبراطوريات المال الحرام يرسم عليها ممنوع الاقتراب والرقابة. هي شبكة من المستحيل اختراقها لأنها تتخلص من الأعضاء الخائنين بالتصفية المعنوية. ليس من حق عضو المافيا الخروج سالماً طلباً للبطولة أو للشرف.
على أي حال، بدأت جنازة المدعي العام الاشتراكي، الذي كان أكثر المحاكم الاستثنائية شعبية. فهو يذكر بعصر فات ويحارب أعداء الشعب الذين تقرر الأنظمة التضحية بهم ليصمت الشعب.


طوق أمني حول الجنّة الافتراضية الأجهزة قيّدت حركة الاستخدام المفتوح للإنترنت وفرضت على المقاهي التي تقدم خدمة مفتوحة أن تستبدلها ببطاقات مجانية، لكنها تشترط أن يضع المستخدم كل معلوماته عليها: اسمه وعنوانه ورقم هاتفه وتاريخ ميلاده. الأهم طبعاً تحديد مكان الدخول إلى الشبكة.
طوق أمني يحيط بالجنة التي انطلقت منها عاصفة الغضب الأخيرة. ومحاولة تتبع مراكز المعارضة الجديدة المطاردة أصلاً. فالأجهزة، بعدما وجهت ضربة استباقية لإضراب أيار، قررت التصفية التدريجية وإغلاق المنافذ من المنبع. طاردت مؤسس مجموعة الإضراب على «الفيس بوك»، وهو شاب اسمه أحمد ماهر، هرب في الأيام الأولى ونام في سيارته، فيما اعتقلت الأجهزة زميلته إسراء عبد الفتاح. وبعد الإضراب، طاردته الأجهزة من جديد واصطادت سيارته من الشوارع وعذبته ليعترف بكلمة السر للمجموعة.
في الوقت نفسه، ألقت القبض على نادر جوهر، وهو صاحب استوديو تليفزيوني، بتهمة إهانة الرئيس حسني مبارك لأنه بث لقطات تحطيم صورته وضربها بالأحذية. رسالة لكل استوديوات البث من القاهرة بالابتعاد عن الخطوط الحمراء الجديدة. وهي منطقة لا تزال غامضة لا حدود لها وتأتي عبر هاتف مباشر من ضابط يجلس على مكتبه في مقر أمن الدولة، كما حدث مع أحمد ماهر حين استضافته قناة «الحرة» وطلبت منه عدم المساس بالحكومة والنظام.
خطة محكمة امتدت من الجنة الافتراضية إلى مواقع أخرى تحركت بعيداً عن الرقابة المباشرة بعد سنوات من التعود على الإيقاع؛ فقد ألغى أمن الدولة أمس ورشة عمل أقامها المركز العربي لاستقلال القضاء في الإسكندرية. ورشة معتادة يحضرها قضاة موضوعها: تفعيل مواثيق حقوق الإنسان في القضاء المصري. لكن إدارة الفندق اعتذرت في اليوم الثالث وقالت بصراحة: «لا بد من تصريح مكتوب أو شفهي من أمن الدولة».
مدير المركز ناصر أمين أعلن دهشته من إجراءات الخطة الجديدة لحصار الخارجين عن صفقة التواطؤ بين الحكومة والمعارضة التقليدية (الأحزاب المعلنة والإخوان المسلمين). ويبدو أن الخطة تُنَفَّذ بإصرار لمحاصرة الجنة الافتراضية التي هربت منها معارضة النظام. فهل تنجح؟ وهل المعارضة الجديدة بقوتها العفوية قابلة للتدجين؟ وهل هي صيد سهل؟