احتفلت الدولة العبرية قبل أيام بميلادها الستين، برفقة حلفائها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، التي حرصت دوماً على ضمان «حافة التفوّق العسكري النوعي» لإسرائيل في المنطقة على مدى العقود الماضية. إلا أن مفهوم التفوّق هذا ارتدى حُلّةً جديدة، بعد تغير المعادلات والتحالفات والعداوات، ودخول إيران وثورتها على خط التوازنات الإقليمية
شهيرة سلّوم

منذ إعلان الرئيس الأميركي هنري ترومان قيام دولة إسرائيل في 14 أيار عام 1948، ضمنت بلاده بقاءها، من خلال ما يُعرف بضمان «حافة التفوق العسكري النوعي» لإسرائيل على أعدائها الذين كانوا آنذاك الدول العربية. والتفوّق لا يعني «القدرة على التغلّب على كل دولة على حدة» في الميدان، بل «ضدّ أي هجوم جماعي»، بمعنى أنّ العتاد والطائرات والأسلحة الاستراتيجية، عدداً ونوعية، يجب أن تفوق القوّة العسكرية للدول العربية مجتمعةً كي تتمكن إسرائيل من الدفاع عن نفسها إزاء أي تهديد محتمل.
ورغم أنّه لا تعريف رسمياً من الحكومة الفدرالية الأميركية لهذا المفهوم، إلّا أنّه تبلور من خلال التقارير التي ترفعها اللجان المعنية إلى الكونغرس والتقارير الإسرائيلية إلى الإدارة والوكالة الحكومية الأميركية لبيع الأسلحة (مكتب الشؤون السياسية والعسكرية التابع لوزارة الخارجية: مهامه تتعلق ببيع الأسلحة وشرائها)، ووكالة التعاون الأمني الدفاعي وقيادة القوات المشتركة ومجموعة الاستخبارات الدفاعية والقيادات القتالية واللجان والبيانات الرئاسية.
وحين تُعدُّ وزارة الدفاع الأميركية لائحة بمبيعات الأسلحة إلى الشرق الأوسط، تضمّنها بياناً عن تأثيرها على «حافة التفوّق النوعي العسكري». وفي الاجتماع السنوي للمجموعة السياسية العسكرية لوزارة الدفاع المشترك، تقدّم إسرائيل لائحة بالأنظمة التي تمثِّل تهديداً «للتفوق العسكري النوعي»، كما يقدّم الرئيس الأميركي تقريراً للكونغرس عن «نقل الأسلحة إلى الشرق الأوسط» (بموجب القسم 404 من المادة المتعلّقة بالعلاقات الخارجية، القانون العام من المادة 102ـــــ 138).
وفي بيان رئاسي من جورج بوش الأب إلى إسحق رابين عام 1992 ورد أن «الالتزام الثابت تجاه أمن إسرائيل هو ضمان التفوّق العسكري النوعي لها». وقبل أيام، قال بوش الابن أمام الكنيست الإسرائيلي إن «شعب إسرائيل يُعدّ سبعة ملايين نسمة فقط، لكن عندما تواجهون إرهاباً يوجد معكم 300 مليون أميركي».
عملياً، رسّخ الرئيس ليندون جونسون هذا المفهوم في صلب الاستراتيجية الأميركية بعدما افتتح في عام 1968 البادرة الأميركية الأولى لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي من خلال بيعها طائرات «أف 4»، لتصبح بعدها واشنطن المورّد الأول لتسليح إسرائيل، وحلّت مكان باريس التي كانت تقوم بهذه المهمة.
السياسة الأميركية هذه كانت لها دوافع أساسية، أولها أنّ إسرائيل تدافع عن المصالح الأميركية في المنطقة وعن القيم الغربية، وثانيها كان يتعلق بالحرب الباردة ومحاصرة الاتحاد السوفياتي في مناطق نفوذه العربية. وفي حرب الأيام الستة عام 1967، وجدت واشنطن في تل أبيب ديموقراطية استطاعت أن تهزم قوات متعددة مدعومة من الاتحاد السوفياتي.
وتشير دراسة لـ «واشنطن انستيتوت» الى أنّ الولايات المتّحدة تهدف من خلال «ضمان التفوق العسكري لإسرائيل» إلى ضمان القوة الدفاعية لإسرائيل من خلال التفوق النوعي في توازن القوى الإقليمية وتعزيز قدرتها لمواجهة أي تهديد. ومنع النزاعات الإقليمية من خلال إشراك إسرائيل في السياسة الأميركية لجهة مكافحة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل. وبناء الثقة الضرورية لإسرائيل كي تأخذ المخاطرة المحسوبة من أجل السلام، كما حدث عام 2005 حين فك الارتباط من غزة وبعض الأجزاء الشمالية من الضفة الغربية.
الالتزام الأميركي أدّى إلى تبلور مفهوم تقليدي لنظرية «حافة التفوّق العسكري النوعي» (التدريب، والترسانة العسكرية، عديدها ونوعيتها، التكتيكات، والقيادة)، فصنّاع القرار الأميركيون يرون أنّه يعني «امتلاك إسرائيل القدرة كي تدافع عن نفسها بنفسها ضدّ أي تهديد جماعي إقليمي، بمعنى آخر أن تكون قدرة إسرائيل أكبر من قدرة دول المنطقة مجتمعة.
على الجانب الإسرائيلي، فقد أسس أول رئيس حكومة، دايفيد بن غوريون، وثيقة الدفاع الأساسية عام 1953، ومن ركائزها «إسرائيل كانت وستبقى متفوّقة نوعياً من ناحية الأسلحة على جيرانها العرب، ومن أجل تحقيق ذلك عليها أن تطور حافة التفوق النوعي».

إيران تقلب المفهوم

اشتعلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ورفعت شعار «تصدير الثورة» إلى الدول المجاورة والقضاء على إسرائيل، فاشتعل معها خوف الدول العربية التي تحتضن أقليات شيعية قد تسهل عملية اختراق الثورة لها. خوف ازداد مع الحرب العراقية ـــــ الإيرانية (حرب الخليج الأولى)، وفي لحظة باتت إيران وثورتها الخطر الداهم الذي يهدّد الدول العربية وإسرائيل معاً. وفي هذا السياق، يقول الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، دايفيد بروك: «لقد استطاعت طهران أن تفعل ما عجزت عن فعله عقود من اقتراحات السلام وسنون من الحروب، لقد جلبت إسرائيل والأردن والسعودية والإمارات والفلسطينيين والولايات المتحدة إلى المعسكر نفسه».
تبدّلت المعطيات الإقليمية، ودخول الثورة الإسلامية في المعادلة انعكس على مفهوم «حافة التفوّق العسكري النوعي»، رغم أنّها تبقى ضمن المصالح الاستراتيجية للإدارة الأميركية، إلا أنّها استراتيجية قابلة للتعديل والمراجعة بحسب تغير التوازنات ووجهة العداوات والتحالفات والمصالحوبدأ الأعداء التقليديون لإسرائيل منذ الثمانينيات تدريب قوّاتهم العسكرية على التكتيكات الأميركية في المعارك وإرسال ضباطهم إلى العواصم الأوروبية وواشنطن من أجل المشاركة في دورات تدريب عسكرية مع قوات أميركية وأوروبية. واتجهت واشنطن نحو إبرام صفقات أسلحة مع دول الخليج، تحقيقاً لثلاثة أهداف: إعادة تدوير الأموال النفطية، والإشراف على تسليح العرب من خلال اصطيادهم قبل أن يلجأوا إلى بريطانيا وروسيا وفرنسا لتلبية احتياجاتهم من الأسلحة لمواجهة ما يسمى التهديد الإيراني، وجذب الدول العربية إلى معسكرها. وانطلقت بذلك سلسلة من صفقات الأسلحة، وبمليارات الدولارات، إلى الدول العربية. وفي عهد رونالد ريغان بداية الثمانينيات، باعت واشنطن للسعودية أنظمة الرادار المحمولة جوّاً، فتآكلت القوّة الجوّية الإسرائيلية أمام أي عمل عدواني محتمل من حلف عربي. عندها دقت تل أبيب ناقوس الخطر وأعلنت أنّ «تفوّقها في تكتيكات المعارك أمام أعدائها قد تقلّص». فطمأنتها واشنطن بالقول إنّها تحافظ على حافة التفوّق من خلال الأنظمة الفرعية (استهداف أكثر فتكاً، وبرمجيات عالية الكفاءة، ما يُعطيها تفوّقاً من ناحية التكتيك والفعالية العسكرية).
وعملياً، راعت واشنطن في كل عملية بيع أسلحة إلى دول المنطقة معيار التفوّق النوعي لإسرائيل، بحيث قدّمت في مقابل أي صفقة للسعودية أو مصر أو الإمارات واحدة مثيلة لإسرائيل. (وتبقى إسرائيل أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأميركية التي تصل إلى 30 مليار دولار).
ولكن في ظل التهديد الإيراني، يفترض بواشنطن أن تقدّم ضمانات لحماية حلفائها في المنطقة، إسرائيل ودول الخليج، إما من خلال التزامات سياسية عبر البيانات الرئاسية لردع أي تهديد نووي إيراني، أو ضمانات ثنائية أو متعددة الأطراف عبر الاتفاقيات، وهذه الضمانات إما أن تقدّمها واشنطن وحدها أو يشترك فيها حلف شمال الأطلسي أو الدول الأوروبية الثلاث (فرنسا بريطانيا، وألمانيا) أو مجموعة الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
وفي هذا السياق، أسّست واشنطن ما يسمى «حوار الأمن الخليجي»، وهو عمل دبلوماسي يهدف إلى تأكيد الالتزام الأميركي بحماية المصالح الحيوية المشتركة في المنطقة ويركّز على بيع الأسلحة، وأمن المرفأ، وصناعات الطاقة في السعودية وقطر والبحرين والكويت والإمارات وعمان. أما صفقات الأسلحة إلى تلك الدول فتهدف إلى درء أي تهديد إيراني لتلك الدول.
وقد أشارت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إلى أنّ واشنطن بحاجة إلى استراتيجة جديدة في المنطقة تقوم على أساس تحالف بين الدول المسالمة والمعتدلة (تركيا ـــــ إسرائيل ـــــ مصر ـــــ الأردن ـــــ دول مجلس التعاون الخليجي والجناح المعتدل في لبنان والسلطة الفلسطينية والعراق) ضدّ ما يسمى محور الإرهاب المتمثل في سوريا وإيران، ومعهما «حماس» وحزب الله.
استراتيجة جديدة، فرضها الواقع الجديد: الدول العربية لم تعد مصدر تهديد لإسرائيل، فالعراق أُطيح، وسوريا ـــــ وفق النظرة الأميركية ـــــ تعاني قوّة عسكرية ضعيفة وقدرات جويّة محدودة، وعملية السلام في الشرق الأوسط قيّدت مصر والأردن، إضافة إلى أن جنوح الدول العربية إلى السلام مع إسرائيل (المبادرة العربية عام 2002 التي أطلقتها السعودية، وجولة أنابوليس الأخيرة التي وسّعت آفاق التقارب بين إسرائيل وجيرانها العرب).
أمام هذا الواقع، تغيّر مفهوم «التفوق العسكري النوعي» لإسرائيل، وحصل تباين في النظرة الإسرائيلية والأميركية. بالنسبة إلى واشنطن هو يعني «تمكين إسرائيل من ردّ أي اعتداء جماعي في المدى المنظور». وعلى المدى المنظور الخطر الآتي على ولايتها الشرق أوسطية ليس من حلفائها العرب، بل من طهران. وهذا التفسير كان أحد المبرّرات الرئيسية لطمأنة تل أبيب حيال صفقات الأسلحة إلى دول الخليج.
أما بالنسبة إلى إسرائيل، فالتفوّق يعني «التقدّم في أنظمة الأسلحة، لا العدّة نفسها» (النوعية) (باستثناء الغواصات والمركبات الجوّية)، كما يعني التفوّق العسكري على الدول العربية وإيران مجتمعين. وقد رأت أن صفقات الأسلحة إلى الدول العربية تهدّد «حافة تفوقها العسكري» وبالتالي «وجودها»، ووضعت سيناريوات تبرّر خوفها هذا من خلال عودة الدول العربية إلى صفوف الأعداء، كأن يسقط نظام الرئيس المصري حسني مبارك في أيدي الأصوليين أو السعودي أو الأردني أو لبنان وحتى سوريا.
كما أنّها تتخوّف من سيناريو آخر، كأن يحصل تحالف يجمع العرب وإيران، قد يقلب حافة التفوق إلى غير مصلحتها، مع إنتاج إيران أسلحة الدمار الشامل (الأسلحة البيولوجية والكيمائية والصواريخ الباليستية التي يبلغ مداها 1200 كيلومتر وتعمل على تطوير صواريخ يبلغ مداها 1400 كيلومتر).
إلا أنّ إسرائيل تبقى متفوّقة في مجال استطلاع الفضاء والأسلحة النووية والصواريخ الباليستية، على إيران والعرب كلاً على حدة، فهي تملك ما بين 75 إلى 130 سلاحاً نووياً، ويرى المحلّلون أنّها يمكن أن تستخدم صواريخها البعيدة المدى والأسلحة النووية ضدّ أي هجوم، سواء أكان بالأسلحة التقليدية أم غير التقليدية، تطبيقاً لما يُعرف بـ«خيار سامسون» (الذي وضعه بن غوريون وشمعون بيريز وليفي أشكول وموشي ديان أواسط الستينيات، ويقضي بالردّ النووي على أي عمل عسكري يهدّد وجودها، كما يمكن استخدامه ضدّ أي أهداف أخرى كـ«خيار أخير»)، إضافة إلى أنّ سياستها النووية تُبقيها قوّة نووية ضاربة في العالم، حيث يمكنها أن تتهرّب من العقوبات الدولية لعدم التزامها باتفاقيات الحدّ من الانتشار النووي وتتطوّر نووياً في الآن نفسه، مستندة إلى المعايير المزدوجة التي يعتمدها القطب الأميركي تجاه منطقة الشرق الأوسط والقضايا الدولية بشكل عام.