حسام كنفانيشكّل اتفاق الدوحة متنفساً لبنانيّاً بعد مرحلة طويلة من الاستقطاب السياسي توّجت باشتباكات دموية في مناطق متفرقة من البلاد. أصداؤه تراوحت بين الغبن والانتصار للأفرقاء السياسيين، غير أنها انعكست ارتياحاً في الشارع، الذي وجد معظمه في الاتفاق نهاية لأزمة كادت تودي في البلاد مجدّداً إلى منزلق الحرب الأهلية، التي كانت الأحداث الأخيرة في بيروت والجبل نموذجاً مصغّراً لها.
ارتياح خبره الفلسطينيون في قطاع غزّة والضفة الغربيّة في الثامن من شباط العام الماضي إثر توقيع «اتفاق مكّة» والمصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس» بعد سلسلة من المواجهات الدامية بين الطرفين في الأراضي الفلسطينية. غير أن الاتفاق، الذي كان من المقرّر أن يكون نهاية للأزمة الداخلية في الأراضي الفلسطينية، مثّل بداية لما هو أسوأ بكثير مما كان عليه الوضع قبل التوقيع، وصولاً إلى الرابع عشر من حزيران 2007، تاريخ «الحسم العسكري» من قبل «حماس» في غزة، والفصل السياسي والجغرافي الذي ترسّخ في الأراضي الفلسطينية بين القطاع والضفة الغربية إلى يومنا هذا.
هذا لا يعني أن خواتيم اتفاق الدوحة ستكون مماثلة لما تمّ الاتفاق عليه في مكّة، غير أن الظروف والأرضيّة والامتدادات الدولية والإقليميّة للأطراف المتنازعة في الأراضي الفلسطينية ولبنان هي نفسها، ولا سيما أن طرفي النزاع في المكانين يمثّلان نهجين سياسيّين متناقضين لا يشكّل الاتفاق بينهما إلا مرحلة تعايش مؤّقتة.
ومن الممكن تسليط الضوء على بعض جوانب التشابه الداخليّة بين ما سبق وما لحق اتفاق مكة، مع الوضع اللبناني قبل اتفاق الدوحة وما هو متوقّع بعده. قد يكون تراشق التصنيفات هو أحد أبرز أوجه التشابه في الوضعين، بين فريق مصنّف ضمن «المشروع الأميركي»، وآخر في «المحور الإيراني ــــ السوري». وبغض النظر عمّا إذا كان التصنيفان دقيقين، إلا أنهما كانا ولا يزالان يعبّران عن فجوة اختلاف عميقة في منطقة لا تحتمل ترف «الخلاف السياسي الديموقراطي».
اختلاف لم ينهه اتفاقا مكة والدوحة، بل وضعا إطاراً تنظيميّاً غير كفيل بحل الأزمة من جذورها. الإطار التنظيمي وتفاصيل تطبيق الاتفاق الأوّل، إضافة إلى العوامل الإقليمية والدولية، كانت سبب انهياره وتعثره من اللحظة الأولى لإعلانه. وهنا يمكن تمييز تشابه بين انطلاق تطبيق الاتفاقين، ولا سيما مع الحديث اللبناني اليوم عن «وزير داخليّة حيادي» في حكومة الوحدة الوطنية المرتقبة ليكون مشرفاً على الانتخابات النيابيّة المقبلة. فالمنصب نفسه كان مدار خلاف عميق بين «حماس» و«فتح»، ما هدّد بانهيار الاتفاق بعد أيام من إبرامه وأخّر تأليف حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى التاسع والعشرين من آذار، أي بعد نحو شهرين من توقيع الاتفاق.
العامل الدولي قد يكون واحداً في الحالتين، فالولايات المتحدة أبدت اعتراضاً ضمنيّاً على توقيع الاتفاق في مكّة، وكانت لها اليد الطولى في تخريب حال «التعايش المؤقّت» التي نتجت منه، بحسب تسريبات وتصريحات إعلاميّة كثيرة. وفي الحال اللبنانية، لم يكن الترحيب الأميركي حاراً، بقدر ما كان حذراً عبر التلميح إلى أن الاتفاق ليس النهاية، ما قد يكون مؤشّراً إلى رفض واشنطن القبول بمنطق «خسارة معسكرها»، الذي كرسته أحداث لبنان الأخيرة.
رفض قد تشاركها فيه أطراف إقليميّة، ولا سيما السعوديّة، التي تعدّ نفسها أحد المستهدفين في «حرب الأيام السبعة». وكما كان للتنافس العربي ــــ العربي الخفيّ على الريادة دور في منع تطبيق اتفاق مكّة لمنع الرياض من قطف ثمرة المصالحة الفلسطينية، فإن مثل هذا التنافس غير بعيد عن اتفاق الدوحة؛ فالعاصمة القطرية حقّقت، لعلاقاتها شبه المتوازنة مع الأطراف كافة، ما لم تستطع تحقيقه الجامعة العربية مجتمعة والتدخّل الدولي. والصعود القطري قد يكون اليوم في مهداف أكثر من طرف عربي يرى نفسه على وشك خسارة صفة «الكبير».
سياق التشابه لا يغني عن وجود الكثير من الاختلافات، لكن الإضاءة عليه قد تكون ضرورية لمنع تحوّل اتفاق الدوحة إلى مكة ثانٍ.