strong>تصدّر محمد حسنين هيكل اليوميّات المستقلة مرتين في أسبوع واحد. مرة حين تحدث عن الوضع في مصر، وأمس حين قال إن «العرب شفطوا بطونهم وغيّروا أنسابهم ليعجبوا أميركا». هذه آراء سياسية وليست أخباراً، لكنها أصبحت مانشيتات الصحف لقرّاء يحاولون الخروج من حالة الاحتقان العمومي بالمنشطّات المقاومة للمستقبل المخيف
وائل عبد الفتاح

كابوس الأقباط: مذبحة في ظلّ الطوارئ
«احمدوا ربّنا أن قانون الطوارئ موجود»، تصريح أدلى به وزير الدولة للشؤون القانونية والبرلمانية، الدكتور مفيد شهاب. هو أستاذ مشهود له في القانون وخبير في التنظيمات السياسية من أيام منظمة الشباب، أشهر تنظيمات السلطة في الستينيات.
التصريح صادم، وخصوصاً أنه يمثّل خروجاً عن انحياز للقانون الطبيعي وغرام بالقانون الاستثنائي. الصدمة ليست في التصريح، فالمسؤولون في مصر بلا آراء شخصية، إنهم ركاب موجات وصدى لما يقال في قصور الرئاسة. لكن في صدورها عن وزير مشهور بأنه «مثقّف وأكثر حكمة من آخرين»، ما يشير إلى رؤية متداولة في الجلسات المريحة بعيداً عن الشد السياسي والكلام المنمّق عن أسباب تمديد الطوارئ لأكثر من ٢٧ سنة متواصلة.
النظرة إلى القانون على أنه نعمة لا يعرف المصريون قيمتها غريبة، لأنها ليست علمية وجاء الرد عليها بعد ساعات في جريمة كشفت أن النظام الأمني في الشوارع لا يحقق الأمن. وما حدث في مجزرة حي الزيتون يشير إلى أن التواجد المكثّف لأصحاب البذلات البيضاء (الشرطة العادية) والسوداء (الأمن المركزي) والألوان (الشرطة السرية) لا يمنع قتلة محترفين من القيام بمذبحة في وضح النهار.
أين قانون الطوارئ؟ سؤال تردد على لسان أشخاص لم يهتموا من قبل بالصراع على الحريات السياسية المعطّلة. ولم يقرأوا تقرير منظمة العفو الدولية، الذي صدر هذا الأسبوع وتحدث عن ١٨ ألف معتقل سياسي من دون حكم قضائي.
أين الأمن؟ كيف تقتحم فرقة القتل في وضح النهار محلاً للمجوهرات وتقتل ٤ أشخاص، ثم تهرب ولم يطاردها سوى جار بسيارته؟ تنتقل الأسئلة إلى أوسع من مجال الجريمة الجنائية وتتحول إلى عنصر جديد لرعب الأقباط. الضحايا كلهم من الأقباط والقراءة الأكثر انتشاراً أنها أكبر من جريمة نفّذها قتلة محترفون استأجرهم أعداء الضحية وذابوا وسط ملايين في العاصمة.
إنها رسالة تخويف للأقباط، الذين لم يهتمّوا بأي بعد سياسي للجريمة، كأن تكون من تدبير النظام ليقنع الناس بضرورة الطوارئ أو بأنها عودة لـ«غزوات» الجماعة الإسلامية. لكنهم استعدوا لموسم جديد من عمليات الرعب. لم يُكشف الكثير عن غموض الجريمة ولم يُعرف بعد هل هي تصفية حسابات مالية أم عائلية؟ أم هي عملية اختارت بالصدفة محل مجوهرات لبعث رسالة غامضة يتلقاها أكثر من طرف؟ تمرين آخر على العنف المقبل. بعد العنف السياسي في المحلة، ها هو العنف الشخصي. و«الطوارئ» لم يمنع شيئاً.
«الطوارئ» لم يحقق الأمن سوى للرئيس. وقبل عامين تقريباً حدثت مذبحة وسار شاب يحمل سكيناً في شوارع الاسكندرية واقتحم ٣ كنائس وقتل مسيحيين. الأقباط يومها هتفوا: «بالروح بالدم نفديك يا صليب». والقاتل، بحسب روايات شهود العيان، كان يصرخ على طريقة الأفلام الدينية: «نحن فداك يا رسول الله». بشائر حرب طائفية كاملة الأوصاف.
حرب وقودها فقراء ومساكين. لم يهتف أحد للضحية المقتول. وكانت صيحة القاتل في غير محلها. كما كانت طعنته غادرة. لماذا توجّه المختل، بحسب التصنيف الأمني للجاني بعد الجريمة، إلى كنيسة لا إلى مركز شرطة المنتزه الذي قتل ضباطه شاباً من التعذيب. لماذا لم يتوجّه إلى الحزب الوطني الحاكم؟
الرعب موجود تحت السطح. ولا تلتفت الدولة إليه، بل لا تعمل من أجل تحقيق التوازن والأمن. وتترك نار الفتنة تسري ولا حركة. وكلما قُتل مصري يؤمن بالمسيحية كان هذا موجهاً ضد كل المسيحيين. الغريب أن عدم الأمان يحدث في ظل جهاز أمن قوي. جهاز أمن يعرف كل كبيرة وصغيرة من المعتقدات السياسية حتى الغزل خلال المكالمات الجنسية. نظام أمني حديدي يعرف كل همسة، لكنه لا يحقق الشعور بالأمن لطائفة كاملة (تتراوح أعدادها بين ٧ إلى ١٠ ملايين). ربما تكون هواجس، لكن الدولة لم تجتهد في القضاء عليها.
«لماذا إذاً يحمد المصريون الله على الطوارئ؟ ألأنها تحمي الرئيس ليستمر في الحكم؟»، قال المحامي المشغول بالمعتقلين وهو يشير إلى أن «الأمن يساهم في صنع الخوف والرعب أساساً بقانون الطوارئ... والرعب آتٍ من منطقة جديدة وليست في حسبان الأمن». إنهم «أبناء المعتقلين»، هم جيل تربّى بشعور الاضطهاد مع طول فترة غياب الآباء خلف المعتقلات «جيل غاضب يشعر بالحقد على المجتمع ويبحث عن ضحية، رغم أنه ضحية أصلاً»، والضحية المنتظرة هم الأقباط. ومع زيادة إحكام القبضة الأمنية، فإنه من المتوقع أن تردّ الخلايا النائمة بعنف. تبحث عن أهداف لها ردّ فعل قوي وموجة انتقام تكشف تفاهة أسباب تمديد الطوارئ. الأقباط لن يشعروا بالأمان حتى لو ظهرت حقائق تشير إلى أنها ليست جريمة سياسية. الرعب قبل المذبحة. ويتمثل في ارتفاع مطالب الهجرة إلى أوستراليا ونيوزيلندا وكندا، كما حدث في الستينيات. هجرة وهروب وملامح خوف مرسومة بقوة، هذه هي مذبحة الأقباط تحت حماية قانون الطوارئ.
في اليوم التالي لفتنة الاسكندرية الثانية، فتنة السكاكين التي نشرت شعوراً بعدم الأمان، ليس عند المسيحيين فقط، ولكن عند المسلمين الهاربين من هوس التخلّف. كانت السيارة تمر ببطء بين الزحام الكبير، امرأة تحرك عجلة القيادة وتنظر حولها، هي في الأربعين أو أكبر، تدير المذياع على القداس، وكأنها تعلن عن وجودها وتقول: «أنا هنا. فعلاً لا أزال هنا». المرأة بسيارتها كانت تدافع عن وجودها. تحاول إقناع نفسها بأنها لا تزال قادرة على إعلان مشاعرها الدينية في بلدها من دون خوف. ربما كان هذا شعورها. وربما كانت محاولة استفزاز. لا أحد يمكنه الحسم، ولا سيما أن المصريين يعيشون منذ فترة في انتظار كارثة. وكلما اشتعل حريق قالوا إنه الدمار النهائي، لكنه ينتهى على شاشات التلفزيون بأحضان وقبلات وأناشيد وحدة وطنية وعرض أفلام تغني «يحيا الهلال مع الصليب». هذه تمارين على حرب أهلية يخشى منها على مستقبل يأتي بلا ذاكرة. فالذاكرة تمحى بماء النار، وعلى العتبات المقدسة توضع قنابل موقوتة على وشك الانفجار.

تشاؤم هيكل: السير إلى المنطقة السوداء

الرؤية السوداوية لمستقبل مصر قد يكون عامّاً. ليس حكراً على شخصية دون أخرى ولا يحدّده التفاوت الاجتماعي والثقافي. من الواضح أن الجميع بات يلحظ تغيّرات لا تبشّر بمستقبل مشرق

عاد عبد الباسط حمودة، نجم الأغنية الشعبية. العودة قوية. أغنيته في كل مكان. وعلى غير المعتاد في سيارات وعلى أجهزة محمول أصحابها ليسوا من الجمهور التقليدي. على العكس، هم جمهور يتعالى على الإحساس الشعبي الحارق ومزاجه الحاد. لكن عبد الباسط حمودة اخترق الطبقة الوسطى بأغنية يشير الاهتمام بها إلى حالة ألم اجتماعي عمومي. الأغنية تقول «أنا معرفتش نفسي فجأة»، ويشرح «لا هي دي ملامحي... ولا ده شكلي... بصّيت لنفسي فجأة وتعبت من المفاجأة».
أغنية عن اغتراب عن الذات. لماذا لمست المصريين؟ وأين استقر الوجع العام ليتفاعل مع هذه المشاعر الخشنة؟ في هذه الفترة، يعجب الناس بكلمات مثل التي قالها محمد حسنين هيكل هذا الأسبوع أمام نادي القضاة: «إحنا رايحين في داهية»، و«نحن قادمون على سنتين حالكتين». الكلام عن المنطقة السوداء التي يسير إليها الوضع في مصر، ما عدّته الصحف المقرّبة من النظام «تشاؤماً اعتاده الأستاذ هيكل».
التشاؤم لا يخص هيكل وحده. إنه مشروع قومي لكل من يتابع ما يحدث في مصر الآن. هيكل قال إنه «قد تكون التكنولوجيا ومعارضة الفيسبوك أمل في آخر النفق، لكن النظام، وبالتكنولوجيا نفسها، طور أدواته واستطاع بدلاً من مراقبة ٤٠٠ هاتف (وهو العدد الذي كانت تراقبه سلطات الاستعمار البريطاني وسلّمته إلى أجهزة الثورة وقتها) الآن لدى النظام تكنولوجيا تمكّنه من مراقبة ٤٠ مليون هاتف في وقت واحد. أي أن النظام طوّر أدوات سيطرته بينما تبحث المعارضة عن تكنولوجيا الهروب من السيطرة».
هيكل استقبل عهد حسني مبارك بالتفاؤل. قالها أمام صحافيين انتظروه عند باب المعتقل الذي أودعه فيه أنور السادات. لكنه ختم العهد بالتلويح بأيام سوداء. وهو مؤشر مهم لواحد من أهم صنّاع الصور السياسية.
هذه هي مهارة هيكل الأولى والمهمّة التي احتاج إليها السادات في بداية عهده، حين مهّد له هيكل الجسر إلى السيطرة الكاملة على السلطة في صراعه مع مجموعة موظفين في الدولة الناصرية سمّتهم أجهزة الإعلام وقتذاك «مراكز القوى».
هيكل كان مهندس خطة السادات للاستيلاء على الحكم، التي سمّيت أيضاً «ثورة التصحيح». لكنّ السادات تخلّص منه بطريقة مهينة وجعله يقرأ خبر إبعاده عن «الأهرام» في الصحف مثل ملايين القراء.
في الحالتين كان هيكل ابن الدولة أو خبيرها الكلاسيكي. تجاوز دور «الصحافي العادي» إلى مهمة حامل الرسائل إلى الشعب والمشارك في صناعة عقل النظام. مهمات رجال دولة. وهيكل بخريطة علاقاته الواسعة تمكّن من صنع «مكانة» له أسهم فيها تاريخه الصحافي والسياسي. وزاد عليها انشغاله الدائم بتقنيات الصحافة: المعلومات والكواليس.
ورغم أنه حُرم وثائق عصور ما بعد عبد الناصر فإنّ زياراته الجديدة للتاريخ حجزت له مكاناً متميزاً فى عالم الصحافة، وإن لم يحصل على «دور» في سياسة مبارك.
هل كان هيكل ينتظر موقع المستشار لنظام مبارك؟ أم كان يكفيه دور «الحكيم» الذي يدلي باستشارات في مسارات الدولة؟ إجابات هذه الأسئلة تنتمي غالباً إلى خيال سياسي مشغول برغبات هيكل التي لم يكشف عنها بالطبع.
لكن يبقى مؤشر واحد يقول إن شخصاً بذكاء هيكل لم يكن يتوقع دور المستشار ولا الحكيم في نظام يحكم مصر على طريقة الحاكم من أنصاف آلهة. لكنه بلا مستشار ولا كهنة كبار. مجرد أتباع تتضاءل خبراتهم وكفاءاتهم كلّما تقدم النظام في العمر. وبعدما كانت مجموعة المستشارين تتمتع بكفاءة ما موروثة من عصور الثورة وما قبلها، انحدرت الحال وأصبح مستشارو النظام ومحاموه من نوعية أقرب إلى «ضباط المخلة»، وهو مصطلح في العسكرية المصرية يعني الضباط الذين تمّت ترقيتهم لأقدميتهم. هيكل في الغالب اكتشف هذا من أول لقاء مع مبارك.
هيكل قال عن مبارك في أيامه الأولى إنه «نور ساطع». ولم يقل لماذا يقود النور الساطع إلى تلك الظلمة الموحشة؟

قدس الأقداس: ثروة الرئيس
هل اشترى الرئيس حسني مبارك قصر العروبة؟ هذا ما كتبه رئيس حزب «الغد» أيمن نور الأسبوع الماضي في يومية «الدستور». قبلها بأيام نشرت الصحف المقرّبة من النظام أن مبارك قدّم تقرير ذمته المالية إلى الجهات المختصة. لم تنشر تفاصيل التقرير كما هو متعارف عليه في الدول الديموقراطية، لكنها إشارة إلى «شفافية النظام» في مصر.
شفافية ناقصة من دون تفاصيل ولا حقيقة. قارنت الصحف المعارضة بين إعلان ثروة الرئيس جورج بوش وإخفاء ثروة مبارك. إنها أخطر خط أحمر وسر الأسرار. الرئيس في مصر ليس محصّناً هو فقط، بل وعائلته أيضاً. لا تجرؤ مؤسسة رقابية على الاقتراب من الذمة المالية للرئيس.
ولا يعرف أحد التفاصيل الحقيقية لراتب الرئيس. في أيام جمال عبد الناصر كان هناك قانون: «راتب الرئيس يساوي 7 أمثال أقلّ راتب في الدولة». بالتأكيد الأرقام تغيرت الآن. من الذي قرر تغييرها؟ وما هو الراتب الحقيقي للرئيس؟ معلومات بسيطة من المفروض أن يعلمها الشعب الذي ينتخب الرئيس. ومن المفروض أن يعلن مفردات راتب الرئيس ودخله السنوي. وكذلك من المفروض أن تعلن عائلة الرئيس أعمالها وشركاتها وكل ممتلكاتها حتى يراقب المجتمع استفادة عائلة الرئيس من قوة المنصب.
هذه قاعدة بسيطة تبني الثقة في الدولة وتحمي سمعة الرئيس بعد أن يغادر منصبه (إن غادر قبل الموت)، لأنه من دون هذه الرقابة سيظل متهماًَ في نظر الرأي العام وستصبح ذمته المالية وسيلة لتدميره بعد الموت، كما حدث مع عبد الناصر وأنور السادات، اللذين ظلّت تهمة الثروة الحرام تطاردهما حتى خرجت تقارير عن كل قرش تركه عبد الناصر، بينما ظلت عائلة السادات تدافع حتى الآن عن أن «كل ما قيل عن ثروتها في أميركا ومصارف سويسرا ليس إلا أوهاماً وشائعات أعداء الرئيس الراحل».
الانتقام بهذه الطريقة ليس بعيداً عن الرئيس مبارك، وخصوصاً مع طول فترة حكمه ودخول ابنه جمال ساحات الصراعات السياسية. والتغاضي في عصره عن قاعدة امتناع المسؤول السياسي عن ميدان الأعمال. فالرئيس مبارك لم يكن غير ضابط جيش طوال عمره، فمن أين أتت الثروة التي اشترى بها قصر العروبة.
معلومة نور وردت نقلاً عن لسان شقيق زوجة الرئيس من أنه اشترى القصر من «أصحابه القدامى». سؤال كان لا بد أن يصدر بيان للرد عليه من الرئاسة. لكن هذا لم يحدث. كما لم يُرَدّ على شائعات من نوع أن هناك من يدير أعمال مبارك، أو أن جمال يشارك في أكثر من مشروع وأنه ضمن مجموعة تمتلك شركة أوراق مالية، بين أعضائها ابن محمد حسنين هيكل.
لا أحد يجيب عن هذه الأسئلة، وهذا ما يجعل الثروة جزءاً من حرب النظام والمعارضة. تهمة معلقة لا تحرك الواقع باتجاه شفافية حقيقية. ويتفق القانون والواقع على أنه لا رقيب على الرئيس في صرف المخصصات التي تسمى «تحت تصرف الرئيس».
الخيال الشعبي يرى أن السلطة هي سلّم الثروة، ويتساءل الناس العاديون: كيف تقفز الحالة المالية للرئيس. قفزات تصيب الناس بالذهول والإحباط لأنها توحي أن «نهب الثروة هو القانون». ويصبح أكبر أمل هو: «أن يستمر الحاكم فى مكانه لأنه بالتأكيد وصل إلى مرحلة الشبع، لكن الجديد ستكون شهيته مفتوحة للنهب».
صورة من اختراع الخيال الشعبي الذي لم يعرف شيئاً اسمه حرية تدفق المعلومات أمام الصحافة. والجميع يردد أن أميركا فقط هي التي تملك المعلومات عن ثروة مبارك.