وزير الخزانة يجول الخليج لإيقاف انحدار ساعة الدين العام نزار عبودساعة الدين العام الأميركي المثبتة على مبنى سيمور ديرست في ساحة تايمز في نيويورك لم تعد مقصداً للسياح وحدهم، بل بات سكان عاصمة المال الأميركية أنفسهم يحدّقون فيها، وكأنها تنذرهم بـ«اقتراب الساعة». لم يكن اهتمامهم بها على هذا النحو قبل عام. لكن الغموض الشديد في رؤية المستقبل الوظيفي والاستقرار الاقتصادي، وهيمنة وحش الغلاء الزاحف بسرعة نحو جيوبهم وحساباتهم المصرفية، جعل الشأن الاقتصادي يتجاوز كل اهتمام آخر. ولا شك في أنه سيكون لهذه العوامل الدور الرئيس في التأثير على قرار الناخب الأميركي في الخريف المقبل.
يقول أحدهم، وهو يراقب الساعة الإلكترونية المؤلفة من 15 خانة، «الحمد لله أن الدين لم يبلغ الزليون دولار بعد». إنه لا يزال أقل من 9.5 تريليونات دولار، وسيصل إلى 10 تريليونات دولار في ربيع العام المقبل.
لمن لم يحسب التريليون بعد، طالما أن ميزانيات معظم الدول تتم بالمليارات والملايين، فإنه يساوي مليون مليون، أو ألف مليار. هذا الدين يقل نسبياً عن الدين اللبناني العام. فهو يصل إلى 36 في المئة من الدخل القومي الأميركي. وربما يصل إلى 31.100 تريليون دولار عند احتساب الديون الداخلية الأخرى المترتبة لحسابات الطبابة وصناديق الضمان الاجتماعي الأميركية. وحتى نهاية الشهر الماضي، تجاوزت مديونية كل أميركي من الرضيع إلى الكهل، 31.1 ألف دولار.
لا يقتصر الاهتمام بالدين الأميركي على الأميركيين وحدهم. بل إنه يمثّل همّاً وهاجساً لكل عارف بالشأن الاقتصادي في العالم. فهو أوّلاً محكوم بالدولار الذي تحتسب قيمة العملات على أساسه. ناهيك عن كونه المعيار الحسابي لكل المواد الأساسية تقريباً، من الحديد إلى القمح والخشب، وفي مقدمتها جميعاً يأتي النفط بسعره الصاعد بوتيرة تشبه دقات عقارب ساعة الدين في ساحة «تايمز» النيويوركية. وكلما تضخم حجم الدين الأميركي العام، ضعفت قيمة الدولار، وارتفعت قيمة النفط، وهبط ضغط المواطن الأميركي. فالعالم لم يعد متشجعاً على إقراض الولايات المتحدة، وهناك بوادر عصيان على «البيك» الأميركي، حتى من جانب الدول النفطية العربية التي تجني مليارات الدولارات يوميّاً من ارتفاع قيمة الطاقة. حتى هناك عزوف غير عربي عن البقاء في قطار الدولار المتهالك.
خير إشارة على هذا التحول أنه منذ آب 2004 خفضت اليابان قروضها للولايات المتحدة بنسبة 3 في المئة. وفي عام 2006، أعلنت كل من إيطاليا وروسيا والسويد والإمارات أنها بدأت خفض أرصدتها بالدولار من 90 إلى 85 في المئة من إجمالي موجوداتها في المصارف المركزية من العملات الصعبة. وفي أيار العام الماضي، أعلنت الكويت عن فك ارتباط دينارها بالدولار. وحذت سوريا حذوها في حزيران 2007. وإذا ما سلكت الصين هذا السبيل، فإن الخطر على الدولار الأميركي وعلى اقتصاد الولايات المتحدة سيتضاعف، ويختل التوازن النقدي العالمي إلى حدود يصعب تصورها.
لكن قبل أن تتجه الصين في هذا الاتجاه لاعتبارات تتعلق بميزانها التجاري مع الولايات المتحدة، بدأ العصيان السياسي يتفشّى حتى على مستوى الحلفاء التقليديين لواشنطن. فدول الخليج كلها تنوي أن تحذو حذو الكويت وتقلع عن ربط عملاتها بالدولار. وهو أمر يثير القلق بشدة في الولايات المتحدة.
لذا بدأت الجمعة جولة لوزير الخزانة الأميركي، هنري بولسون، على دول الخليج العربية ليقنع حكوماتها بتوظيف كنوزها الدولارية المتضخمة في السوق الأميركية، ولكي يناشدها زيادة الإنتاج النفطي لمساعدة الاقتصاد الأميركي العاثر. وفي الوقت نفسه، لن ينسى أن يوصي تلك الدول بعدم التعامل مالياً مع إيران وإطباق الحصار عليها.
الدول المصدرة للنفط باتت تحتفظ بتريليونات عدة من الدولارات، من شأنها إذا ما حوّلت في هذا الاتجاه أو ذاك أن تقلب الموازين في أسواق الاستثمار. ويقدر الخبراء أن ستة تريليونات أضيفت إلى مداخيل دول النفط منذ غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. أي أكثر من تريليون دولار إضافية سنويّاً والوتيرة تتسارع. وعليه، فإن بولسون ينوي أن يقول لهذه الدول «إن الفضل في ثرائكم الفاحش يعود إلى جهودنا الحربية. والواجب والحال هذه أن يقابل الجميل بجميل مماثل».
لكن، كما دلّت تجربة الكويت، أكثر دول الخليج المدينة للجميل الأميركي في 1992، عندما تصل الأمور إلى الجيوب، يأتي دور المحاسب لتولّي الرد. فدول الخليج تشتري السلاح واستثمرت الكثير في السوق الأميركية، لكنها لا تستطيع مواصلة الرهان على دولار فاقد للقيمة. وكما رفضت دول الخليج الاستجابة إلى طلب جورج بوش أخيراً زيادة إنتاج النفط، لأن الزيادة لا يمكن أن تأتي بين ليلة وضحاها، فمن غير المتوقع أن تستجيب صناديق الاستثمار السياديّة الخليجية لمجرد تمنيات أميركية، مع أنها استثمرت أخيراً في السوق الأميركية نحو ستين مليار دولار. فما من اقتصادي حريص على تحقيق أرباح في محفظته في نهاية السنة يجرؤ على التفريط بمئات مليارات الدولارات لأسباب واهية. عدا عن أن هذه الدول خبرت في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تدهوراً في قيمة صادراتها بشكل حوّل بعضها إلى دول مدينة بعدما كانت دائنة. والطفرة النفطية الحالية قد تنقلب في مستقبل غير بعيد إلى ركود في سوق النفط.
بداية التحوّل
في الساحة نفسها، أي «تايمز سكوير»، تمضي حافلات كتبت على بعضها عبارة «يسير بمحرك هجين». وكلمة هجين هي تعبير علمي في مقابل التعبير الشعبي «البغل أو النغل». والبغل حيوان قوي البنية، لكنه مخلوق منتهٍ في حد ذاته، ولا يصلح كأب أو أم. فهو مهجّن من حيوانين (الحمار والفرس). والأميركيون الذين كانوا يفاخرون بالسيارات الفاخرة ذات المحركات المسرفة للطاقة، يزدادون تقشفاً في أيامنا هذه بعد ارتفاع سعر غالون البنزين إلى 4.5 دولارات. ويتجهون بسرعة نحو إحلال البغال المعدنية هذه محل الحافلات القديمة. وكثير من أصحاب محركات الديزل يستخدمون الزيوت النباتية في خزاناتهم منذ سنين، ما دام ليتر الزيت أرخص من ليتر الديزل.
إذاً زمن البحبوحة الاقتصادية والبذخ لم يغرب عن عواصم دول العالم الثالث وحدها، بل إنه يغرب حتى عن عواصم المال الكبرى، وربما تكون هذه بداية السعي الجدي نحو معالجة المديونية الأميركية، ومعها معالجة الكثير من مشكلات العالم، بما فيها المشكلات البيئية المتفاقمة. لكن مخاض ولادة البغال كانت دائماً عسيرة.