إيلي شلهوبقيل الكثير في «قمة دمشق». في «نجاحاتها» و«إنجازاتها». في «إخفاقاتها» و«سخافتها». أصحاب الرأي الأول يساجلون بانعقاد المؤتمر العربي في موعده ومكانه، رغم الضغوط، بالمشاركة الرفيعة المستوى التي يقولون إنها لا تقل عمّا درجت عليه العادة في مناسبات كهذه، بأن بعض «المتغيبين»، وبينهم الرئيسان اليمني والصومالي ورئيس الوزراء العراقي، معذورون، بأن سلطان عُمان وملك المغرب لا يشاركان عادة في القمم العربية، بأن القمة كشفت للجميع من هو المعزول فعلاً في العالم العربي، بالهدوء الذي ميّز جلساتها العلنية والمغلقة، وسقوط الرهان على تفجرها، بترفع رئاسة القمة عن الخوض في المناكفات، واعتماد خطاب تصالحي، عنوانه «مدّ اليد» للآخرين، كرّسه «إعلان دمشق»....
في المقابل، يساجل أصحاب الرأي الآخر بأنها كانت قمة «النصف زائداً واحداً». بأن دولتين كبيرتين، هما السعودية ومصر، غابتا عنها، بأنها قمة «الثلث» نسبة لعدد السكان، بأنها شهدت، في خطوة نادرة، مقاطعة دولة عضو في الجامعة العربية هي لبنان، بأنها لم تفلح في معالجة القضايا الساخنة، وفي مقدمتها الأزمة اللبنانية، بأن مقرراتها كانت فارغة من حيث المضمون وبأنها كانت تكراراً لبيانات سابقة....
حجج «المعتدلين العرب»، وفي مقدمتهم «الأكثرية» اللبنانية، تبدو جديرة بالاهتمام، لكنها للأسف ترتد على أصحابها:
تعبير النصف زائداً واحداً يبدو إسقاطاً لبنانياً، يستهدف القول إن ما هو مقبول به كمعيار لتأمين نصاب القمة، مرفوض لتأمين النصاب في بيروت، لكنه في الوقت نفسه يُفترض أنه يشير إلى طبيعة الاصطفافات. بهذا المنطق تكون لسوريا تحالف يضم 10 دول عربية، فيما للسعودية خمسة حلفاء، هم لبنان ومصر والأردن وجيبوتي والصومال. ويبقى اليمن والعراق والمغرب والبحرين وسلطنة عُمان على الحياد.
غياب أو تغييب السعودية ومصر نفسيهما عن القمة لا شك في أنه يعدّ مشكلة، نظراً للظروف غير الطبيعية التي أحاطت به: توترات وخلافات تجاوزت في تداعياتها كل المحظورات. ولا شك في أنه يعدّ صفعة لقمة دمشق، لكنها صفعة تعبر عن تحالفات ما وراء الحدود، وخاصة مع السيد الأميركي. تؤكد مقولة محاولات «خادم الحرمين» و «فرعون مصر» رفع الغطاء العربي عن سوريا، تمهيداً لما هو آت! وتعيد إلى الأذهان تغطيتهما عدوان تموز على لبنان ورفع الغطاء عن المقاومة «المغامرة».
أما الادعاء بأنها قمة «الثلث» فيفترض سذاجة تصل حدّ الغباء. وكأن أنظمتنا العربية تتجذر فيها الديموقراطية. وكأن للشعوب صوتاً، في القمة أو في غيرها. كما حال مقاطعة لبنان للقمة؛ لعل في كلام وليد المعلم بشأن عدم جواز مناقشة ملف لبنان في غيابه ما «أثلج صدر» فؤاد السنيورة. يبدو أنه اعتاد أداء دور الحمل الوديع الذي يخشى لقاء الأسد.
وبالنسبة لمن يقول بسخافة المقررات، فتكفي إحالته إلى مقررات القمم السابقة، لعله يجد فيها ما يدعم حجته.
ومع ذلك، يبدو هذا السجال كله بلا جدوى. لا شك في أن دمشق حقّقت بعض الأهداف في مرمى الرياض ومصر... وواشنطن، أبرزها:
ـــ تعرية الوهم القائل بأن العرب كلهم، وفي مقدمتهم دول الخليج، معادون لطهران ودمشق، وبأن سوريا وحدها تؤدي دور «العميل» للجمهورية الإسلامية. ولعل في الكلام العُماني والقطري داخل الجلسة المغلقة وحديث العقيد القذافي في الجلسة العلنية، وحركة منوشهر متكي داخل أروقة القمة، خير معين على تلمّس ذلك. إضافة إلى تأكيد «إعلان دمشق» «علاقة الأخوة العربية ـــ الإيرانية ودعمها وتطويرها».
ـــ مستوى المشاركة في القمة: 11 رئيس دولة، بينها ثلاث خليجية، ونائبا رئيس ونائبا رئيس وزراء. مع العلم أن عدم حضور الرئيس علي عبد الله صالح (الخائب بعد فشل «إعلان صنعاء») لا يُعد مقاطعة لسوريا، كما هو الحال بالنسبة لملك المغرب (كي لا يجالس عبد العزيز بوتفليقة) ورئيس الوزراء العراقي (المنشغل باضطرابات البصرة) والرئيس الصومالي (للظروف الخاصة التي تمر بها بلاده). حضور يعكس مدى ارتباط مصالح الكثير من الدول، وبينها خليجية، بسوريا، رغم علاقتها الممتازة مع السعودية ومصر. بل إنه يعكس مدى حاجة هذه الدول لعاصمة الأمويين وعجزها عن مقاطعتها.
ـــ ظهور سوريا بمظهر الدولة العقلانية، الحريصة على وحدة العرب وأمهنم ومصالحهم. صورة تجد صدى لها قوياً في الشارع العربي، عكسها خطاب الرئيس السوري في الجلسة الافتتاحية: «أننا جميعاً في قارب واحد». ضرورة «الحوار الصادق». التأكيد على «أمن العرب». ضرورة ربح «معركة السلام». ضمان «استعادة الحقوق» على قاعدة أن «الأحرار لن يتحولوا إلى عبيد» و»أصحاب الأرض لن يسلموا بالاحتلال»، وأن «ما لم يتمكنوا من الحصول عليه من تنازلات من سوريا سابقاً، لن يحصلوا عليه لاحقاً».
ثلاثة محاور تكتسي أهمية قصوى، إذا ما رُبطت بالتسريبات والمخاوف الشائعة منذ أشهر عن حرب وشيكة تترقبها المنطقة هذا الصيف، حرب يجري التمهيد لها على مستويات متعددة، عسكرية وسياسية وإعلامية، في عملية تقوم على مجموعة من الأسس: عزل سوريا عربياً بعدما فشل في استدراجها إلى حلف «المعتدلين»، تصويرها على أنها حلقة مركزية في تحالف يمتد من طهران ويضم «حماس» و«حزب الله». الترويج لمقولة أن مكوّنات هذا الحلف معادية للعرب ولمصالحهم، وأنها قوى «ظلامية» «متطرفة»....
لكنها أهداف لا تجعلها تفوز بالمباراة، التي يبدو أنها دخلت شوطها الأخير. ما نجحت سوريا حقاً في تحقيقه هو رمي الكرة باتجاه «فريق الاعتدال»، الذي يبدو أنه أربك، فتلقفها وطلب وقتاً مستقطعاً، قرر خلاله، عبر الوزير سعود الفيصل، امتصاص حدث القمة، عبر تأكيد عدم القدرة على عزل سوريا الموجودة في «قلب الأمة العربية»، ومهاجمة المعارضة اللبنانية في الوقت نفسه.
لن تمر فترة طويلة قبل أن يعيد هذا الفريق قذف الكرة، التي يبدو أنها ستوجه إلى الملعب اللبناني.