strong>بعد 17 عاماً على وضع الحرب الانفصالية في جنوب اليمن أوزارها، يعود شبح التقسيم ليطلّ من جديد بعد موجة من الاضطرابات التي شهدتها محافظة لحج في اليومين الماضيين، ووسط أجواء من الاحتقان والاحتجاجات شبه اليومية التي تشهدها المحافظات الجنوبية منذ آذار الماضي
مي الصايغ
تأتي التحركات الأخيرة في مدينتي الضالع والحبيلين في محافظة لحج اليمنية، احتجاجاً على عدم السماح لعدد من الشبان الجنوبيين للالتحاق بالسلك العسكري عندما تقدموا للتطوع تلبية لدعوة وجهها الجيش. تظاهرات رافقتها أعمال شغب، جرى خلالها إغلاق الطريق الرئيسية بين عدن وصنعاء بالإطارات المشتعلة والحجارة، ليعقبها حملة اعتقالات في محافظات الضالع ولحج وعدن. وتضم قائمة المعتقلين السكرتير الأول للحزب الاشتراكي السفير السابق علي منصّر محمد، وعضوي المكتب السياسي للحزب حسن أحمد باعوم ويحيى غالب الشعيبي، ونائب رئيس جمعيات المتقاعدين العسكريين العميد حسن علي ناصر البيشي، والكاتبين الصحافيين أحمد عمر بن فريد، وعلي هيثم الغريب.
وفي وقت أكّد فيه عضو اللجنة العامة لحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، أحمد عبيد بن دغر، أن المتظاهرين «قاموا بأعمال تخريبية وبالاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وقطع الطريق»، أرجع الأمين العام للحزب الاشتراكي ياسين سعيد نعمان ذلك الحراك الاحتجاجي، لغياب «مشروع الوحدة الطوعي الديموقراطي السلمي»، الذي دمّر في حرب الانفصال، إضافة إلى سياسات الضم والإلحاق. ورأى «أن المطلوب الآن هو إعادة الجنوب شريكاً في الوطن»، معتبراً أن «الحراك الشعبي في الجنوب قضية سياسية».
وجاء انفجار الأوضاع نتيجة لتوتر ساد أخيراً في محافظات الجنوب، التي يتذمر سكانها من سياسات الحكومة وعدم اهتمامها بالتنمية الاقتصادية لمناطقهم. ويتهم الجنوب محافظات الشمال بالسيطرة على اقتصاد البلاد والوظائف القيادية في الحكومة منذ توحيد اليمن عام 1990 برئاسة علي عبد الله صالح.
وما فاقم المشكلة أزمة الضباط والجنود الذين اتهموا بالمشاركة في محاولة الانفصال عن الشمال التي أجهضت عام 1994. فقد فرّ معظم هؤلاء إلى المناطق الجبلية الوعرة أو إلى السعودية، ولم يعودوا إلا بعد تلقي ضمانات من الحكومة بإلحاقهم مرة أخرى بالجيش. وأجبر نحو 60 ألف شخص من الجيش والوظائف العامة على التقاعد المبكر. الأمر الذي استدعى تأسيس جمعية المتقاعدين التي تبنّت مطالب عودة نحو 70 ألفاً إلى وظائفهم العسكرية والمدنية إثر حرب صيف 1994.
ونظّمت في جنوب اليمن، خلال الأشهر الماضية، سلسلة من التحركات الاحتجاجية ضد الحكومة، ووجهت بردّ عنيف من جانب قوات الأمن. وما لبثت الجمعية أن تجاوزت مطالب عودة من خسروا وظائفهم إلى الدعوة إلى «حق تقرير المصير» والمطالبة بانفصال الجنوب عن الشمال والعودة باليمن إلى دولتين، كما كانت عليه الحال قبل قيام الوحدة اليمنية عام 1990، بعدما كانت منذ سنوات خطاً أحمر.
ووجد رئيس شورى حزب «اتحاد القوى الشعبية» المعارض علي شائف أحمد ذلك «نتيجة طبيعية لمعاناة المواطنين في الجنوب بعد حرب صيف 1994» بين الشمال والجنوب، مشيراً إلى أن «هناك عسكرة للحياة المدنية وإقصاءً للمدنيين والعسكريين من وظائفهم».
إلا أن المعارضة التي تنضوي في إطار أحزاب اللقاء المشترك (5 أحزاب من اليسار والإسلاميين)، رفضت بشكل قاطع، شأنها شأن الحكومة، المطالب الانفصالية للجنوب.
وفي محاولة لتخفيف حالة الاحتقان المتصاعدة في جنوب اليمن، لم يقم الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أخيراً سوى بإجراءات تسكينية عبر إعادة أكثر من ألف متقاعد عسكري إلى الخدمة في الجيش نهاية العام الماضي.
ولا تزال آثار تلك القضية تتفاعل حتى اليوم، إذ تم التعامل مع جيش الجنوب وكأنه جيش بلد مهزوم، وأحيل مئات الضباط والجنود إلى الاستيداع بالرغم من العفو العام المعلن. كما استبعد قادة الحزب الاشتراكي اليمني، الذي تراه غالبية الجنوبيين ممثلاً لها، عن المشاركة في السلطة، وتحوّل قادته إلى لاجئين في دول الجوار، ثم تمليك الشماليين أراضي في الجنوب.
وعن الأسباب الأخرى وراء تصاعد الاحتقان السياسي والاجتماعي، يرى القيادي الجنوبي قاسم الذرحاني أن الفقر والبطالة المتفشيين بشكل أكبر في الجنوب عن الشمال يعدّان من الأسباب الرئيسية. وأوضح أن «دولة الجنوب كان لها منجزات اقتصادية، أبرزها القضاء على البطالة، ولكن فرض الوحدة بالقوة أتى على منجزات جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية الجنوبية السابقة، وكل ما له علاقة بهذا الكيان من موظفين مدنيين وعسكريين».
كما أن المشكلة الكبرى التي تواجه الشطر الجنوبي هي أن الحزب الاشتراكي الحاكم في جنوب اليمن قبل الوحدة، عوّد الجنوبيين على الاكتفاء براتب الوظيفة فقط في ظل إيجاد خدمات صحية وتعليمية مجانية، ليصبح من الصعب على من فقد وظيفته أن يتلاءم مع وضع آخر.
وفي ضوء ذلك التهميش الذي يشهده الشطر الجنوبي، تؤكد المعارضة أن هذا الحراك الاحتجاجي جاء نتيجة حتمية لفساد السياسات الحكومية ومحاولة للنضال السلمي لنيل الحقوق، فيما يتهم حزب المؤتمر الحاكم المعارضة باستغلال الجو الديموقراطي لممارسات تخريبية ولإدخال البلاد في صراعات وانقسامات من أجل تحقيق أهداف سياسية وانتخابية، بعد الخسارة التي منيت بها أحزاب اللقاء المشترك في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة.
قلق لم تستطع صنعاء إخفاءه بعدما أبدت أحزاب المعارضة في تكتل اللقاء المشترك تأييداً كبيراً لقضايا الناس، ما يعزز فرصها في كسب تأييد الشارع اليمني الواقع تحت نير الفقر والبطالة والفساد في الانتخابات المقبلة. إذ حملت المعارضة جدول أعمال سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، مجددةً المطالبة بوضع حد للتدهور الاقتصادي والمعيشي ولظواهر الفساد والسياسات الحكومية المغذية للاحتكار، واعتماد الشفافية في الإيرادات النفطية والحد من أعمال النهب المنظم للثروة والمال العام ووقف جرعات رفع الأسعار، فضلاً عن مطالبها بالإصلاح السياسي الشامل، وإغلاق ملف حرب 1994 والحد من الممارسات القمعية ضد الفعاليات السلمية ورفع التضييق الحاصل للهامش الديموقراطي وتعزيز الحقوق والحريات العامة والمواطنة المتساوية والحد من سياسات التمييز وإلغاء الآخر.