وائل عبد الفتاح
مصر إلى أين؟ السؤال صعب لأن مصر هي البلد الذي يبدو من بعيد مستقراً وسط محيط يغلي بصراعات إقليمية ودولية. لكن البلد البعيد عن تأثير الصراعات الكبرى مشتعل بحروب صغيرة، لكن مرعبة، وتجعل من الخوف «سياسة» يلتقي فيها النظام والمجتمع. فالشعار الرئيس لحروب مصر الآن هو: البحث عن مكان في المستقبل الغامض أصلاً. إنها حروب صنعتها سياسة «تضييق الدولة» لمصلحة فئة صغيرةإضراب 6 نيسان يكسر «حزب الصمت»... لكن ماذا بعد؟
«هل هناك إضراب يوم الأحد؟». سائق سيارة الأجرة كان مهتماً بدرجة كبيرة، رغم أنه يبدو من شريحة كبيرة تنتمي إلى «حزب الصمت» الشهير في مصر. شاب في بداية العشرينات لم يكمل تعليمه واضطر مع الزواج إلى ممارسة مهنة لا تحتاج إلى شهادات. لا يعرف كثيراً عن صراعات السياسة ولا يقرأ الصحف، بل يصب كل اهتمامه على متطلبات الحياة، والتاكسي الذي يعمل عليه ١٠ ساعات يومياً، ولا يوفّر سوى قوت يومه، وأي طارئ صغير ينظر إليه باعتباره «كارثة».
اهتماهه بإضراب تنتشر أخباره على موقع الـ«face book» يثير الانتباه إلى جديد يتحدى الصمت، أو يتمنّى على الأقل الخروج من دائرته. أكثر من ٦٠ ألف مشترك في مجموعات الإضراب، يعدّون ملصقات ويناقشون تفاصيل لم تخطر على بال روّاد الموقع الشهير.
في المدارس البعيدة عن السيطرة الحكومية المباشرة، طلب المدرّسون من الطلاب عدم الحضور، وإدارات مدارس أخرى رأت أن يوم السادس من نيسان عطلة «لأسباب أمنية».
الحوار في مجموعات الإضراب خرج إلى الشارع، مع تسرّب ملصقات من الموقع ترى أن ٦ نيسان تاريخ فاصل لإعلان الموقف من الحكومة والنظام.
في البداية، كان الإحباط مسيطراً، مرةً باستدعاء خبرات قديمة وعواطف مهزومة فتردّد «أنه لن ينفع شيء مع هذه الحكومة. لن يتغيّر الوضع، لأن الحكومة لا تشعر ولا تحسّ. ولأننا لا نكمل شيئاً». وبدت أسباب أخرى موضوعية لفقدان الأمل في الإضراب: «لا بد من تنظيم، وإدارة جيدة وواعية لهذا النوع من التحركات السياسية».
وتسرّب أيضاً أن هناك جماعات سياسية وراء الإضراب، وتركز الاتهام على جماعة «الإخوان المسلمين»، وخصوصاً أن الموعد يأتي قبل يومين من انتخابات المحليات. لكن الفكرة انتشرت بسرعة النار. وأصبح شعار الإضراب في كل المواقع الشخصية على شبكة الإنترنت، وبدأت بشائر تنظيمية؛ غرفة عمليات مركزية وهواتف للاتصال ومجموعات محامين للدفاع عن المعتقلين. والاعتقالات بدأت بالفعل، أمس، حين كان أحد أعضاء حركة «كفاية» يشتري قماشاً من أحد محالّ مدينة بعيدة عن القاهرة اعتقلته أجهزة الأمن بتهمة الإعداد للإضراب.
هذه رسالة مسبّقة من الأمن لتمنع أخطر خطوات الإضراب، ألا وهي التجمع في ميدان التحرير. الذي يرعب أجهزة النظام بشكل لافت منذ ١٨ و١٩ كانون الثاني ١٩٧٧. لكنّ الأجهزة لم تتدرّب بعد على الأساليب الجديدة، فطوال الأيام الخمسة الأخيرة تواترت آلاف الرسائل على الهواتف المحمولة تدعو للإضراب، وتطلب إعادة إرسال الدعوة إلى قوائم جديدة.
رنّات الرسائل لا تنقطع، والبريد الإلكتروني متخم بعشرات الدعوات للمشاركة في الإضراب الجديد من نوعه على حركة الاحتجاج ضد نظام الرئيس حسني مبارك. إنها روح جديدة؛ استعادت عواطف وطنية قديمة، واقتطع المشتركون شعارات مثل «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر»، وهي شعارات غريبة عن جيل تربّى على كراهية المقولات الوطنية المصدّرة من النظام.
الروح الجديدة تتصالح مع أفكار وطنية غير مسيّسة، لكنّ التيارات السياسية أعجبتها فكرة وصول الأجيال الجديدة إلى محطات المشاركة في الشأن العام، فسرّبت شعاراتها. ولم تكن خافية الدهشة من وجود صور للشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة «حماس» أو شعارات يسارية مثل «إحنا الطلبة والعمال ضد حكومة رأس المال».
ويبدو التسرب مبرّراً لتخوّفات من ركوب تيارات سياسية (في مقدمها الإخوان المسلمين) موجة الإضراب، الذي يتحرك بشكل بعفوي، من دون أجندة سياسية أو مطالب واضحة. لكنه صرخة تعبير عنيفة متأثرة بأساليب احتجاج نقلتها وسائل الإعلام الحديثة إلى وعي شباب يشعر بالغضب، ويريد إشارة أمل إلى مستقبل غامض تماماً.
كل القضايا مطروحة في الإضراب، بدايةً من الديموقراطية وخلافة مبارك وصولاً إلى الأسعار. والكلام متوسع عن نظام يديره اللصوص ونظام فاسد مستمر ٣٠ سنة بنجاح منقطع النظير في القضاء على مصر.
مبارك وعائلته هدف لتعليقات غاضبة، والإشارة إلى «مصر أخرى» ضاعت على أيدي الحكم الأبدي هي نوع من حنين إلى ما قبل حكم الضباط الأحرار، رغم أنه كان تحت الاحتلال. هو أمل يتحرك بيأس محكم. والامتناع عن الذهاب إلى أماكن العمل والتعليم والتوقف عن دفع أموال لشراء أي سلعة هو تعبير رافض، لكنه لا يملك أجندة طلبات أكبر من «حق التعبير».
الإضراب يعبّر عن خليط مشاعر متناقضة تريد «مصر جديدة»، لكنها بلا معالم واضحة. ربما هو الخطوة الأولى التي حرّكتها طوابير الخبز واستحالة فرص الحياة لقطاعات واسعة في السنة الأخيرة.
سائق التاكسي روى نقلاً عن أقرباء له أنه في قرى مصر ومدنها البعيدة عن العاصمة يسجل الأهالي أسماءهم في سجلّات أمام منافذ توزيع الخبز لحجز الحصة المقررة. يبدأ التسجبل في الخامسة صباحاً وينتهي في التاسعة. وضع «مخيف» كما رآه الشاب الذي لا يعرف القراءة جيداً. التقى في غضبه متعلمين في مدارس أجنبية، ويكتبون العربية بالحروف الإنكليزية في حواراتهم على الشبكة الدولية للمعلومات.
مصر تنتظر الإضراب؟ لكن ماذا بعد؟

«الديانة»... و«أمن الدولة»

لماذا أصبح ما يُكتَب في خانة الديانة من اختصاص مباحث أمن الدولة في مصر؟صحف القاهرة سرَّبت تصريحات لمسؤولين في أجهزة الأمن أنه ستُحَل مشكلة خانة الديانة أولاً بالنسبة إلى البهائيين، وسيوضع أمامها خط أفقي. وبالنسبة إلى المسيحيين بعد فترة إسلام قصيرة سيكتب: «مسيحي سبق إشهار إسلامه»
حل مشكلة خانة الديانة يعني اقتراب الوصول إلى حل توفيقي لظاهرة «الموت المدني» التي عاناها عدد من المصريين (وخصوصاً البهائيين) رفضت المصالح الرسمية استخراج أوراقهم المدنية، لأن أجهزة الكمبيوتر لديها لم تبرمج إلا على الأديان السماوية الثلاثة. كما أن عقيدة الموظف الذي يضع البيانات تقول له إن المسيحي عندما يتحول إلى الإسلام شيء عادي، لكنه عندما يعود إلى المسيحية يصبح مرتداً. والمتحول يمر بسهولة، لكن العائد لا وجود له (وربما استحق القتل).
الظاهرة صعدت إلى السطح مع مرحلة الانتقال إلى السجلات الإلكترونية. هنا اكتشفت البيروقراطية المصرية «تساهلاً» و«تسامحاً» مرّ في غفلة من الزمن كان يُسمح للبهائي بأن يسجل ديانته طبيعياً. كما كانت أجهزة التسجيل المدني مفصولة عن سجالات الخروج عن العقيدة. والتحول بين الأديان حرية «مدنية» لا تتعارض مع «التكفير» الديني للخروج من دين إلى آخر.
التسامح في زمن التسجيل اليدوي لم يعد ممكناً، فالجو العام متعصب وغوغائي ولم يعد سؤال: «أنت مسيحي أم مسلم؟» سخيفاً يقال على استحياء. أصبح هو السؤال الأول. لا فرق هنا بين مستويات التعليم أو الثقافة أو الثراء. هذا هو الجو العام. لا أحد يقبل بالاختلاف. وهو أمر يمارس بنوع من فاشية الضعفاء المهزومين الذين يعوضون ضياعهم في الحياة بالدفاع عن عقيدة كبيرة يرونها مضطهدة. فاشية تخلق معها زعماء وملهمين وأمراء طوائف.
من هنا نشأت ظاهرة الموت المدني لأعداد من المصريين لا تعرف جهة رسمية أعدادهم (بالنسبة إلى البهائيين تتراوح الأعداد بين نصف مليون إلى بضعة آلاف. وبالنسبة إلى العائدين إلى المسيحية أثبتت سجلات مراكز حقوق الإنسان ٢٠٢ دعوى قضائية تسعى إلى الاعتراف بالعودة إلى الدين الأصلي).
الألعاب السياسية أحدثت شرخاً في تركيب الدولة. مرر الرئيس الراحل أنور السادات المادة الثانية في الدستور التي تعدّ الشريعة الإسلامية مصدر السلطات. وهي مادة ضد مواد أخرى تحمي حرية العقيدة (وخصوصاً المادة ٤٦ ). أصبح ملف الأقباط في أيدي الأجهزة الأمنية. وأصبح السماح بالتحول بين الأديان يجري في اتجاه واحد من المسيحية إلى الإسلام. ولا تعترف الدولة بالانتقال من الإسلام إلى المسيحية. كما أنها لا تعترف بغير الأديان السماوية الثلاثة، بل إنها في الإسلام نفسه لا تعترف بالمذاهب الأخرى غير المذهب السني. وترى أن التشيُّع قضية أمنية وتتعامل مع معتنقيه على أنهم تنظيم سياسي غير شرعي. وضاقت فكرة الدولة متعددة الطوائف والثقافات إلى دولة إسلامية، ومنها إلى دولة سنية. ضاقت الدولة لأن النخبة المتحكمة ضاقت إلى الدرجة التي جعلتها عائلة بحكم المصالح. عائلة بيدها كل شيء وتحرم الجموع الكبيرة الأمل في التغيير أو الحركة. تنزع منهم الانتماء إلى مجتمع كبير يمنحهم حق الحياة الكريمة. هنا تلمع فكرة التخفي وراء الجماعة الصغيرة. لا أهمية لبناء مجتمع ما دامت الدولة تصر على إحكام الخناق من حوله وتحويله إلى غابة لا مكان فيها إلا لمراكز القوى.
في ظل هذا الصراع، يبحث المواطن العادي عن سند كبير. يشعر المسلم بأنه أقوى وسط مسلمين يرون أنهم الأحق في الفرص القليلة المتاحة. والمسيحي يبحث عن مراكز المسيحيين ليحتمي من الشعور بأنه بلا فرصة هنا، فيلجأ إلى جدران كنيسة ينتظره خلفها كهنة عاشقون للتسلط والزعامة والشهرة.
هكذا الدولة بمفهومها المدني تتآكل. وكل يبحث عن جماعة صغيرة. وليس هناك أقوى من جماعة تتحدث باسم أعلى قوة روحية: الله. هنا يروج الوكلاء. في الإسلام وكلاء للإرهاب (بالسلاح والعودة بالقوة إلى الدولة الإسلامية). وفي المسيحية وكلاء للعزلة (دعوات الانكفاء أو انتظار الهجرة إلى جنة المهجر). وكل منهما يوجه سهام النبذ الديني والسياسي والاجتماعي للمتخلفين (السنة لا يعترفون بالشيعة والأرثوذكس يكفِّرون البروتستانت والجميع يرى البهائية مؤامرة صهيونية).
والخطر أن هذه الهستيريا تتحول الآن إلى قوانين (بحكم الأمر الواقع). الدين أصبح علامة تمييز اجتماعي، وخانة الديانة هي كشّاف عنصري. ولهذا تطالب أصوات في مصر الآن بإلغاء خانة الديانة باعتبارها أول الطريق إلى الفتنة. المفارقة أن الإلغاء هو أيضاً منهج الأجهزة الأمنية. لكنه إلغاء للاختلاف الديني. إعلان التوحيد القياسي المفروض على الجميع من دون مراعاة لبناء دولة مدنية. ورغم أن الأحكام القضائية تتوالى مرة مع حق إعلان الاختلاف الديني ومرة ضده، إلا أن الأمر كله بيد جهاز أمن الدولة الذي تحول من جهاز للحماية السياسية إلى جهاز للإدارة السياسية يذهب إليها الراغب في التحول إلى دين آخر أو الذي ينتمي إلى دين خارج القائمة الرئيسية أو حتى من يريد الزواج من ديانة مختلفة.
هذه هي الكارثة لأن الإلغاء يكون لمصلحة غوغائية الغالبية والمزاج العمومي الذي ينتمي إليه ضباط أمن الدولة، الذين يتصورون وهم يدافعون عن «توحيد الدولة» أنهم يدافعون عن عقيدتهم المضطهدة المعرضة للمؤمرات، وهو الشعور نفسه لخصومهم في جماعات الإسلام السياسيstrong>«جمهورية الخوف»
الشيء الوحيد المضمون في الاستثمار في مصر هو الأراضي والعقارات. ارتفاع جنوني في الأسعار وصل إلى ما يقرب من 400 في المئة. المدن أغلقت تماماً. وأطراف المدن تحولت إلى مصائد الأموال. هستيريا يراها أطباء النفس «بحثاً عن موقع» وتفسيرها الشعبي: «اللحاق بحجر في بيت يسقط». والأرض والعقار هما تجسيد محاولة المصريين الوقوف في مواجهة رياح تجعل الخوف مسيطراً على «بلد الأمن والأمان»، كما توصف مصر في أيقونات على المصالح الحكومية أو في شعارات الدولة التي تربط وجودها بتحقيق الأمن والاستقرار. لكن وسط تكدس العشرات في الحجرات التي لا تزيد مساحتها على 70 متراً، تقام على أطراف العاصمة مستعمرات سكنية تتكون فيها طبقات جديدة ستحكم مصر في العهد المقبل. هؤلاء يحجزون مكاناً في المستقبل وليس مجرد عقار أو مساحة أرض يخططونها على غرار مجتمعات الضواحي في الولايات المتحدة. ويدرس أولادهم في مدارس بالنظام الأميركي (تكاليفها 10 آلاف دولار في السنة) ويسافرون إلى الولايات المتحدة لكي يولد أولادهم هناك ويحصلوا على الجنسية.
وفي المقابل، تبني الحكومة للفقراء مجمعات سكنية لا تزيد مساحة كل منها على 45 متراً في مشروع أطلق عليه اسم الرئيس حسني مبارك. ويعبر عن المساحة التي ستكون للفقراء في ما بعد عهد مبارك. الخوف مسيطر رغم أن النظام في مصر قوي، أقوى من الدولة. لكن مبارك يبدو من بعيد قوياً يعرف أنه لن يتغير. لكنه خائف من الخلافة أو الوراثة أو الأيام التالية لغيابه. مبارك يكاد يؤمن بأنه لن يترك عرشه وهو على قيد الحياة. وحاشيته ترى أن غيابه هو الكارثة المقبلة.
حتى خليفته الوحيد....خائف من غيابه. الابن يريد مكان الأب. لكنه يريد أن يستمر حتى يصل به إلى الكرسي. الأب خائف من ضياع سيادته المطلقة. والابن خائف من غياب الأب قبل إتمام سيناريو صعوده إلى الرئاسة. الخوف هو محرك القرارات في السلطة. وغريزة البقاء هي عقيدة كل رجال النظام. يحاربون من أجل اقتناص أكبر مساحة من تركة الرجل المريض. والمريض يشعر بالقوة من طول الاستمرار والضعف من هجوم المرض والعمر الطويل. وبين القوة والضعف تكبر شراسة غير مسبوقة. تنقل عدواها إلى المقربين من قصر الرئاسة وتتحول إلى حرب على كل شيء، من مكان في السلطة إلى قطعة أرض أو صفقة طائرة. الحرب من هذا النوع مخيفة. وضحاياها بالملايين. المرعوبون من مستقبل لا تملكه سوى شريحة قليلة جداً. الرعب من المستقبل يتحكم في الحياة، وهذا ما يرفع سعر العقارات والذهب ويرسم ملامح اليأس والشراسة على وجوه يعرف أصحابها أن أياماً صعبة مقبلة، ستنتهي معها أسطورة أنه في مصر لا أحد يموت من الجوع.
الخوف عمومي. لا فرق بين فقير ينتظر الطرد من بيته أو رجل أعمال بلا ظهر في السلطة يدرك أن ثروته يمكن «أن تطير في ثانية إذا غضب عليه النظام».
الخوف هو السياسة الوحيدة المتاحة في مصر.