strong>لم تكتف الولايات المتحدة بنظام العقوبات الدولية المفروض على إيران، فلجأت إلى عقوبات من نوع خاص، مستفيدة من تجربة سابقة مع كوريا الشمالية أثبت فاعليتها. تجربة عنوانها «العزل المالي وقطع العلاقة مع النظام المصرفي العالمي»
نيويورك ــ نزار عبود
قد تبدو عقوبات مجلس الأمن الدولي الجديدة على إيران من خلال القرار 1803 ملطّفة من الناحية السياسية، لأنها لا تتعدى الزيادة الكمية في العقوبات التي فرضت بموجب القرارين السابقين 1737 و1747. غير أن إصدار وزارة الخزانة الأميركية تعميماً في 20 آذار الماضي بموجب قانون محاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب جعل الأجراس تدق في كل مصارف العالم بأن المعركة الحقيقية بدأت بالفعل.
المعركة بدأت مع نيّة الولايات المتحدة تطبيق قانونها الجزائي على إيران من جانب واحد، ومحاصرتها داخل النظام المصرفي العالمي، كما فعلت من قبل مع كوريا الشمالية. ولا يقل دور المؤسسات المالية فاعلية عن دور حاملات الطائرات، لأنه يمنع مصارف العالم من التعاطي مع المصارف الإيرانية، وإلا استُبعدت نهائياً من النظام المصرفي الدولي. ولا تستطيع المصارف بعد ذلك استئناف الأحكام أو الطعن بها لأن المالية الأميركية ليست مضطرة بموجب البند 311 من قانون باتريوت الصادر في 2001 إلى الكشف عن قرائن الإدانة، بل يتعيّن على المصرف الواقع تحت المحاسبة إثبات براءته.
كوريا الشمالية
لكشف كيفية سير الحصار المالي، لا بد من العودة إلى قصة الـ25 مليون دولار التي حجزتها الولايات المتحدة لكوريا الشمالية، التي وضعها الرئيس الأميركي جورج بوش في طليعة «الدول المارقة» الثلاث.
ورغم عدم اتهام بيونغ يانغ بدعم الإرهاب أو العلاقة مع تنظيم «القاعدة»، إلا أن واشنطن طبّقت عليها قانون الإرهاب، الذي صدر في 2001، من أجل تجميد أرصدتها المالية، وحرمتها من حرية التعامل داخل النظام المصرفي العالمي.
أزمة الـ25 مليون دولار عرقلت سير مباحثات مجموعة الدول الست (كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والصين وروسيا واليابان وأميركا) لمدة 18 شهراً. إذ رفضت بيونغ يانغ العودة إلى التفاوض إلا بعد أن يسمح لـ«ثروتها» بالعودة إلى النظام المصرفي.
التجميد جرى بموجب البند 311 من قانون باتريوت، الذي استخدمته إدارة الرئيس الأميركي كأداة ضغط على مصرف «بانكو دلتا آسيا»، الذي كانت تستخدمه كوريا الشمالية في جزيرة ماكاو. وتمنح المادة 311 صلاحيات بتجاوز الممارسات القانونية الوطنية ليحل محلّها إجراء خاص يترك ضحاياه من دون عون دفاعي قانوني. ووصفت هذه المادة في الدوائر السياسية الأميركية بـ«المطرقة الدبلوماسية التي تحقق نتائج»، فيما يسميها الضحايا بالمادة التي تحرم المتهم القدرة على ممارسة حق الدفاع عن النفس وتفترض الإدانة مسبقاً.
المادة تمنح الخزانة الأميركية القدرة على استخدام الجانب التنفيذي بدلاً من القانوني كوسيلة لاتهام مؤسسة مالية تنتمي إلى نظام مالي أجنبي بارتكاب مخالفة أو جريمة مالية قبل تجريمها.
ولقد لجأت الإدارة الأميركية إلى هذه الخطوة في أيلول 2005 مباشرة بعد توقيع اتفاقية الأطراف الستة مع كوريا الشمالية. وتمسكت بهذا الإجراء حتى تموز 2006، عندما أجرت كوريا الشمالية تجربة صاروخية وأتبعتها في تشرين الأول من العام نفسه بتجربة نووية. عندها، وافقت الإدارة الأميركية على التفاوض بشأن قرار المالية الأميركية، إلى أن تمّ الاتفاق على رفع تجميد الودائع والسماح لكوريا الشمالية باستخدام النظام المصرفي العالمي.
غير أن الاتفاق أدى إلى وقوع صدام حاد في واشنطن بين المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية وآخرين في مكتب نائب الرئيس ديك تشيني، الذي كان يريد ممارسة أقصى درجات الضغط على كوريا الشمالية. وحصل مساعد وزيرة الخارجية، جون نغروبونتي، على قرار من وزارة المالية في 16 آذار 2007 بمنع تعامل المصارف الأميركية مع مصرف «بي دي أيه». لكنه ترك الأمر لسلطات ماكاو لاتخاذ قرار في شأن التجميد أو الإفراج عن بعض أرصدة كوريا الشمالية أو جميعها. وجعل نائب الرئيس الأميركي تحرير النظام المصرفي الغنيمة التي تحصل عليها بيونغ يانغ من التخلّي عن برنامجها النووي، لأن العزلة المالية تعدّ من أصعب أنواع العزلة، لكونها تكبّل التجارة وتخلق أزمات داخلية.
إسقاط النموذج الكوري على إيران، استدعى أوّلاً تعميماً يحذر المصارف حول العالم من «مخاطر نقص الانصياع الإيراني لقانون مكافحة تبييض الأموال ومحاربة تمويل الإرهاب، فضلاً عن جميع القوانين الدولية المماثلة في التعامل مع جميع المصارف الإيرانية الحكومية والخاصة، بما في ذلك البنك المركزي». ولقد اختيرت كلمة «نقص» بعناية، بحسب رأي خبراء ماليين، لتكون منسجمة مع أدبيات «فرقة العمل المالي» الواقعة في باريس والتي يرمز لها بـ«فاتف».
والفرقة، التي تضم 32 دولة لمحاربة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، قالت في بيان في تشرين الأول 2007 «إن عجز إيران عن التأمين التام لنظام مالي يحارب تبييض الأموال وتمويل الإرهاب يمثّل نقطة ضعف مهمة في النظام المالي الدولي».
ورداً على بيان «فاتف»، أصدرت إيران أول قانون لمكافة تبييض الأموال في شباط الماضي. لكن الفرقة عادت وكررت اتهامها، مع إزالة عبارة «يمثّل نقطة ضعف مهمة»، ورحّبت بالخطوة الإيرانية.
وعندما لجأت المالية الأميركية في 20 آذار في تعميمها إلى استخدام إشارة من بيان «فاتف»، بدت كأنها لا تستطيع انتظار «فاتف» أو أي طرف آخر لكي يقوّم قوانين إيران المالية الجديدة. فالولايات المتحدة تلجأ الآن إلى محاولة عزل إيران مالياً.