بغداد ــ زيد الزبيديلم يتحرّك الشعب العراقي، كما توقّع المحتلون ومن أتى معهم، لـ«الترحيب» بالغزاة. ولم «ينتفض»، كما تصوّروا، على «الحكم الديكتاتوري». كما لم يجد القادمون الجدد من يقف معهم (إلّا ندرة نادرة)، وهم يحاولون إسقاط تمثال صدّام، و«التنكيل به»، فاستعانوا بناقلة دبّابات كانت في المكان، لإسقاط التمثال، ورفع العلم الأميركي مكانه، الأمر الذي قُوبل بالاستهجان في أوّل عملية «جسّ نبض» المزاج الشعبي، فاستبدل بالعلم الأميركي علم عراقي. فهل كانت هذه الحركة الخاطفة إشارة لبدء المقاومة؟
كانت المشاعر غامضة عند الناس. فهم لم يدافعوا عن وطنهم كما يجب، خشية أن يؤدي ذلك إلى عودة نفوذ النظام الديكتاتوري، وهم لم يؤيدوا المحتل، فتلك «خيانة عظمى» بحقّ الوطن. وما بين هذين النقيضين، برز الوجه الثالث.
وبحسب الباحث السياسي، طاهر الطاهر، كان من ينادي بتغيير النظام يُتهم مباشرة بأنه «عميل لبوش». وكان من يدعو إلى مقاومة الغزو، يُتهم بأنه «عميل لصدام»، ووفق هذا الطرح «المتطرف»، غُيِّب الرأي الوطني، الذي كان عليه مواجهة خصمين قويّين، لا قدرة له على مواجهتهما. ولكن بعد اندحار نظام صدّام، أصبح العدو واضحاً. غير أنّ عملية «التغييب» السابقة، أفقدت الشارع العراقي قياداته الحقيقية، ما جعل مقاومة المحتل تخضع لاجتهادات مختلفة ومتنوعة، حالت دون توحيد صفوفها.
ويقول الطاهر: «عندما وجد الاحتلال نفسه معزولاً عن الشارع العراقي منذ اليوم الأول لوجوده، كما كشفت ذلك أحداث ساحة الفردوس، أطلق أولى مبادراته المفزعة، حين سمح للغوغاء بنهب دوائر الدولة ومؤسّساتها وممتلكاتها، وحتى الجوامع التي عدّوها من الممتلكات العامّة، ما ولّد ردة فعل، كانت بمثابة الصدمة للعراقيّين الذين شاهدوا تجاوزات يقشعرّ لها البدن، من بينها الهجوم على المستشفيات، وإنزال المرضى من أسرّتهم المتحركة، لغرض استخدام تلك الأسرة عربات لنقل المواد المنهوبة، بل وصل الأمر إلى حد انتزاع أنابيب التغذية البلاستيكية من أجساد المرضى ونهبها».
وعن ذلك اليوم الفوضوي «الغوغائي»، والأيام التي تلته، قال عبد روضان، وهو صاحب متجر صغير شهد تلك الأحداث: «كان الأميركيون يتفرّجون فرحين على عمليات النهب، وفتحوا أبواب بعض الدوائر التي استعصت على السارقين، لتمكينهم من نهبها، كما فعلوا بتقديم المساعدة لإسقاط التمثال، وتوفير بعض الحبال لسحله». وأضاف: «من المفارقات التي ما زالت غامضة، أنّ رأس صدام التمثال اختفى فجأة، ولم يُعثَر عليه حتى الآن، وقد وزعت إحدى الجهات الدولية صوراً لأحد الأشخاص، ادعت أنّه آخر من شوهد رأس صدام معه، وقالت إنّ هناك مكافأة مالية ضخمة لمن يدلي بمعلومات تؤدي للوصول إلى ذلك الشخص، أو إلى الرأس المفقود».
ويتذكّر سامر عبد الحي أنه عندما امتدّت يد النهب إلى المناطق السكنية، «حدث شبه استنفار، للوقوف في وجه المدّ الفوضوي، والدفاع الذاتي عن المناطق، وكانت فرق الدفاع هذه تتبلور بسرعة، وتحصِّن مناطقها قدر الإمكان، إضافة إلى تنظيم نوبات للحراسة». ويشير سامر إلى أنّ هذا السلوك «أفرز وجوهاً وشخصيات تولّت إدارة أو قيادة المقاومة الدفاعية»، التي يمكن اعتبارها النواة الأولى للمقاومة، ولا سيّما بعد عودة الضباط والعسكرين الآخريين إلى مناطق سكناهم، بعد انتهاء الحرب، وبعد حلّ الجيش العراقي.
وعن حالة ما بعد الحرب، قال الضابط المتقاعد عبد الكريم حسن: «لا نستغرب أن يقف من استفادوا من عمليات النهب إلى جانب الاحتلال، ولكنهم منبوذون كالاحتلال نفسه». والملاحظ أنّ أيّام ما بعد الحرب، شهدت عملية فرز حقيقية، بين الذين اعتبروا أنّ ما نهبوه «غنيمة حرب»، والذين اتخذوا موقف الدفاع الذاتي، وحافظوا على الممتلكات، وتمسكوا بالتقاليد. إلّا أنّ حسن يرى أنّ الأيام التالية فرزت المواقف «بعدما انكشف زيف شعارات الاحتلال، وكانت الكفّة الغالبة لمن شخّصوا الاحتلال ومساوئه مسبقاً، حتى إنّ من أيّدوا الاحتلال في البداية، انقلبوا عليه، إمّا لأنّ نقود الغنائم لديهم قد نفدت، أو لأنّهم شعروا بأنّهم أصبحوا منبوذين، وهذا ما ينطبق حتى على السياسيين الذين اتى بهم الاحتلال، أو أتوا به، أو معه».
ويختم حسن حديثه بتأكيد اقتناعه بأنّ يوم «سقوط بغداد»، لم يكن سوى «يوم بدء المقاومة العراقية، التي أسمعت العالم كلّه بصوت الدم أنّ الشعب العراقي عصيّ على الاحتلال والمحتلّين».