strong>أرنست خوريمن السذاجة اعتبار أنّ كلام السفير الأميركي لدى بغداد، ريان كروكر، عن أنّ إيران «تؤدّي دوراً مدمّراً في العراق»، وأنها تتّبع «استراتيجية لبننة في العراق باختيارها عناصر شيعية محلية لاستخدامها أداة بيدها»، يندرج في خانة الرأي الشخصي الذي لا يعدو كونه ردّاً على استفسارات أعضاء الكونغرس عن حقيقة الوضع في بلاد الرافدين. فالرجل، دبلوماسي محنّك، مخضرم في قضايا الشرق الأوسط، وليس من عاداته أن يتطوّع ويقول «آراء» تُلزم إدارته بمواقف وسياسات تحدّدها كلمة مرتَجَلة.
كروكر ليس جورج بوش. الأوّل يأتي من خلفيّة العمل الدبلوماسي الطويل في كل من لبنان وإيران وقطر والعراق ومصر والكويت وسوريا وأفغانستان والمغرب وكندا وتركيا وباكستان. أمّا الثاني، فمتخلّف عن الخدمة العسكريّة، ومدمن سابق على الكحول، وخبرته في العلاقات العامّة تقتصر على بعض السنوات في حاكميّة تكساس، وبعض العلاقات التي نسجها في عالم شركات النفط. أمّا هوايته الرئيسيّة إلى جانب رعاية الكلاب، فهي ارتكاب زلّات اللسان غير المقبولة، والمكلفة سياسياً.
كروكر إذاً أراد إيصال رسالة عن سابق تصوّر وتصميم. ويمكن من خلال هذه العبارة استشراف بعض ملامح العلاقة المستقبليّة بين طهران وواشنطن، انطلاقاً من «رقعة الشطرنج الكبرى» العراقيّة. علاقة عرفت منعطفاً جديداًَ، بما أنّ النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين، بحسب شهادة كروكر والجنرال ديفيد بيترايوس، بات الخطر الأوّل على القوات الأميركية، لا قوّة «القاعدة».
ليس هذا فحسب، ففي أجوبتهما عن الأسئلة، جمع المسؤولان جميع مظاهر نفوذ ملالي الجمهوريّة الإسلاميّة في أرض الرافدين: طهران تهندس الحياة السياسيّة العراقيّة، هي موجودة في نسيج جميع الأحزاب الشيعيّة وصناديقها الماليّة، من «الدعوة الإسلاميّة»، إلى «المجلس الإسلامي الأعلى» و«جيش المهدي»، حتّى إنّ مقتدى الصدر يتعلّم الفقه على أيدي رجال الثورة الإسلاميّة في جامعة وزارة الخارجيّة الإيرانيّة في قم (بحسب الموقع الإلكتروني «أفتاب نيوز»)... فضلاً عن أنّها تدرّب، بمساعدة حزب الله، «المجموعات الخاصّة» و«فرق الموت» التي «تقتل جنودنا». إنها تجهد لجعل المجتمع العراقي توأماً للمجتمع الإيراني...
أمام هذا المشهد، احتفظ كروكر وبيترايوس بدمهما البارد، ولم يتفوّها بكلمة توحي بحرب قريبة ضدّ إيران على أراضيها: فمصائب آخر أشهر الولاية الثانية لبوش لا تسمح بمغامرة بهذا الحجم. واقتصاد بلاده، وشعبيّته، في تقهقر مطّرد. كما انّ صدى التقرير الاستخباري الأميركي الذي برّأ ذمّة إيران نوويّاً، لا يزال مسموعاً. أضف أنّ النتائج غير محسوبة، و«المجتمع الدولي» غير مهيّأ لخطوة بهذا الحجم بعد. إذاً، الأمر متروك للرئيس المقبل.
لم يوحيا كذلك بضرورة محاربة إيران على الأراضي العراقيّة. فالموضوع قد يودي بجميع «الإنجازات» التي تحقّقت بعد 5 سنوات سوداء. ما العمل إذاً؟ ليس سوى بقاء القوّات الأميركيّة في العراق حتّى إشعار آخر، والالتفاف على توصيات التقرير الأوّل لكروكر وبيترايوس في تموز الماضي، ووقف سحب أي ألوية عسكريّة إضافيّة.
وفي يوم واحد، شهدت قاعة الكونغرس مواجهة جديدة بين فكرين استراتيجيّين في التعاطي مع «الخطر الإيراني»: أحدهما عبّر عنه كروكر، وهو يمثّل ترداداً لجزء من توصيات التقرير الذي أعدّه الثنائي فريدريك كاغان وجاك كايان الذي شارك في صياغته عدد من أقطاب «المحافظين الجدد» في مطلع العام الماضي. وهو جاء ردّاً التفافيّاً على توصيات لجنة بيكر ــ هاملتون الذي رأينا المرشّح باراك أوباما يتحدّث باسم معدّيه، من أقطاب التيّار «الواقعي»، داعياً إلى محاورة إيران «فوراً»، علماً بأنّ بوش اضطرّ إلى طلب إعداد بيكر ــ هاملتون، بعد انتكاسة كبرى واجهته، أساسها الإخفاق في العراق، الذي أدّى إلى احتلال غالبيّة ديموقراطيّة مقاعد مجلسي الكونغرس في انتخابات نصفيّة وجّهت صفعة لإدارة المحافظين الجدد من دُعاة عزل إيران وسوريا، والسير حتّى آخر رمق في وجهة سنّ العلاقات الدوليّة بـ«العصا» الأميركيّة.
ولكي يكون الكلام دقيقاً، ينبغي القول إنّ شهادة كروكر وبيترايوس كانت خلاصة هجينة غير متناسقة جمعت ما بين بيكر ــ هاملتون، وكاغان ــ كايان. فمن جهة، اعترفا بأنّ لإيران وسوريا (وخصوصاً إيران) نفوذاً هائلاً في العراق، وهو ما جنح كاغان ــ كايان على افتراض أنه غير دقيق من منطلق الاستناد إلى عدم الترابط بين أزمات المنطقة. ومن ناحية أخرى، اعتبرا أنّ الحلّ لنتائج هذا النفوذ الكارثي على المشروع الأميركي في المنطقة لا يكمن في محاورة طهران ودمشق، بل في مواجهتهما.
والمواجهة هنا، لن تكون بالضرورة حرباً شاملة مباشرة. لكن الأساس في فكرتها، يبقى التركيز على أولوية الانتصار في العراق عبر استمرار الضغط على دمشق وطهران من أجل المزيد من التنازل من قبلهما، وعدم الاقتناع بخلاصات بيكر ــ هاملتون في إحاطة الوضع العراقي ببيئة إقليمية مستقرّة، عبر إطلاق عملية للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط، قوامها فتح حوار مع هاتين العاصمتين.