السلطة سنّت قانوناً لتنظيم ممارسة الشعائر الدينية... والكنيسة تدينحياة خالديشهد شمال أفريقيا حركة تيارات دينية متناقضة، فإضافة إلى موجة السلفية الجهادية التي بدأت تنتشر في الدول العربية على الساحل المتوسطي الأفريقي، تنشط حركة تبشيرية مسيحية مستغلة الطابع العنفي للتيار الإسلامي الجديد لتحقيق مكاسب في هذا المجال. الجزائر قد تكون نموذجاً واقعياً للحركة التبشيرية، التي بدأت تثير ردود فعل واسعة
مثلما تجذّر الإسلام في الجزائر وشمال أفريقيا من خلال الفتوحات، كانت للمسيحية جذور سابقة لا تزال قائمة إلى اليوم، حيث يستغلها المبشّرون الجدد لنشر المسيحية، لدرجة أن بعض رجال الدين في الجزائر يصفون ما يحدث بـ«الحرب الصليبية الثانية»، ويطلق عليها آخرون اسم «الغارات التبشيرية»، التي تحاول طمس معالم الإسلام في هذا البلد، محمّلين سلطة ما بعد الاستقلال مسؤولية ما يحدث.
«غارات» لها جذور في التاريخ الحديث للجزائر، إذ يرى مؤرخون أن غزو البلاد عام 1830 كان حملة تبشيرية بالدرجة الأولى المراد منها «إعادة مجد المسيحية الضائع في المنطقة». وبعد الاستقلال عام 1962 كان هناك 327 كنيسة لأقل من سبعة آلاف مسيحي، فيما لم يتعدّ عدد المساجد 116 لما يزيد على ثمانية ملايين مسلم. ومع مرور الزمن، تحوّلت بعض الكنائس إلى مساجد، وبقيت الأخرى تمارس نشاطها بترخيص من الحكومة ولا تزال موزعة بين الشرق والغرب (وهران، قسنطينة، تيزي أوزو، عنّابة، بجاية وسكيكدة).
ورغم قلة هذه الكنائس، بقيت مؤطرة جيداً وتعمل بمنهجية محكمة تقودها جمعيات ترعى الشباب، مثل كاتدرائية القديس «سان أوغوستان» في عنابة (شرق الجزائر). وكانت تمارس عملية استقطاب الشباب وتقدم لهم مختلف المساعدات المادية، كما وفّرت لهم تأشيرات وأرسلتهم إلى فرنسا.
كذلك فإن فرنسا، بعد خروجها من الجزائر، نصبت الجمعية البربرية، التي يرأسها الكاتب الأمازيغي الفرنكوفوني المعروف مولود معمري، للعمل على الحفاظ على المسيحية في الجزائر وإقناع الأمازيغ، وهم السكان الأصليون في الجزائر، بأن الإسلام والعربية هما السبب في طمس التاريخ الأمازيغي.
أمر دانه رجال الدين المسلمون ووجّهوا تحذيرات للسلطة آنذاك وأكدوا أن الإسلام دين الدولة الجزائرية بحسب المادة الثانية من الدستور، متهمين الدولة بأنها غضت الطرف عن تكريس هذا النص. غياب الدولة يردّه الباحثون إلى عوامل عديدة، أهمها انشغال الجهات الرسمية في الجزائر بالمعارضة الشيوعية والإسلامية آنذاك، إضافة إلى دعم الطائفة الفرنكوفونية التي كانت في دوائر الحكم لنشر المسيحية.
سر الإقبال على المسيحية
أكدت دراسات رجال التاريخ والدين أن سنوات التسعينيات عرفت إقبالاً مكثفاً على المسيحية، وخصوصاً في أوساط الشباب، بسبب عمليات التشويه على الإسلام التي مارستها الجماعات المسلحة، فأصبح يُنظر إليه على أنه «دين عنف»، في وقت كان فيه الشباب يعيشون حالاً صعباً من الإرهاب والبطالة والفراغ الروحي. هذه الحال قد تكون شبيهة بالأوضاع اليوم مع انتشار المواجهات الأمنية مع السلفية الجهادية في الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا.
وفي ذلك الحين، كانت الكنائس حاضرة بقوة في هذه الأزمة ففتحت ذراعيها للشباب الناقم على الأوضاع، وخصوصاً في ولاية تيزي أوزو، التي يحلم شبابها بالهجرة إلى أوروبا.
ومرة أخرى، أرجع رجال الدين المسلمون زحف المسيحية إلى غياب الدولة التي كانت منشغلة بالوضع الأمني وممارستها الضغوط على المساجد لمراقبة نوعية الخطب، وهو ما وجد فيه المبشّرون ثغرة.
وبعدما بدأت حملة التنصير محتشمة في بداية التسعينيات، خرجت إلى العلن، وازداد عدد معتنقي المسيحية إلى معدل عشرة في اليوم. وزاد مقتل الرهبان المسيحيين السبعة عام 1996 في ولاية المدية غرب العاصمة في تشجيع الحملات التنصيرية.
حملات التنصير لم تقتصر على منطقة القبائل فقط، بل بدأت تتغلغل في معظم ربوع الجزائر، حتى وصلت إلى الجنوب، حيث قامت حملات التبشير باستصلاح الأراضي وقدمت مساعدات مادية لأهاليها، ثم جرى تنصيب المجلس المسيحي في ولاية ورقلة الجنوبية. وبحسب أرقام قدمتها الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة، فإن ثلاثين ألف جزائري اعتنقوا المسيحية بين بروتستانت وكاثوليكن فيما تصرّ السلطة على أنهم نحو 12 ألفاً.
قانون ممارسة الشعائروتمنح المادة السادسة من القانون السلطة أحقيّة إلغاء الاجتماع إذا كان يشكل خطراً على حفظ النظام. كما ينص على طرد الأجانب الذين يشكلون خطراً.
وفي موازاة ذلك، يعمل بعض رجال الدين المسلمين وحكام الولايات بالتنسيق مع مصالح الأمن للكشف عن خطط المبشرين من خلال إعداد تقارير ترفع إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة. كما يؤكدون على ضرورة ملء الفراغ الروحي لدى الشباب وممارسة دور التوعية في المساجد، مع الابتعاد عن التطرف والأفكار البعيدة عن الإسلام.
وفي السياق، اتهم وزير الشؤون الدينية والأوقاف بو عبد الله غلام الله رجال الكنيسة بمحاولة تهديد وحدة الجزائر واستقرارها العام. وقال إن «معظم رجال الكنيسة يشتغلون مع أجهزة أمن في بلدانهم لفرض السيطرة على المنطقة». ورأى أن «التبشير المسيحي البروتستانتي يشكل خطراً دينياً محدقاً لأنه مرتبط بأطروحات استعمارية».
القساوسة ينتقدون
رأى القساوسة أن القانون الذي يحدد الشعائر الدينية هو تدخّل في حرية المعتقدات، ولا سيما أنه الأول من نوعه في الوطن العربي وشمال أفريقيا، وبالتالي يتخوف القساوسة من أن تنتقل عدوى القانون إلى باقي الأقطار العربية. وحاول ستّون قسّاً من الجزائر الاتصال بالفاتيكان من أجل كسب المزيد من الدعم المادي والمعنوي، وطالبوا بالتدخل ورفع عدد الكنائس وتعميمها. كما هددوا بتدويل القضية في حال ممارسة الضغط على الكنائس وممارسة الشعائر.
ورفع كبير أساقفة الجزائر، الأب هنري تيسيي، رسائل إلى هيئات في الدولة تبلغها قلقه مما اعتبره «مضايقات تمارسها جهات رسمية ضد الكنيسة الكاثوليكية». وتشتكي الرسالة من إدانة راهب بالسجن مع وقف التنفيذ، بتهمة التبشير في أوساط المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين.
كما تؤكد مصادر جزائرية أن الأب هنري تيسيي وجه شكواه إلى بوتفليقة وإلى وزير العدل حافظ الأختام الطيب بلعيز، وإلى هيئات أخرى. وتشير الرسالة إلى أن الكنيسة «ضاقت ذرعاً بممارسات لم تشهدها من قبل في الجزائر، جاءت على خلفية حملة محاربة التبشير الذي لا علاقة للكنيسة الكاثوليكية به».
ويرى الرهبان وأعضاء الكنيسة الكاثوليكية أن الاتصال بالمهاجرين السريين الذين تحتجزهم السلطات في إقامات محددة تمهيداً لترحيلهم إلى بلدانهم، من صميم نشاطهم، وينفون ممارسة التبشير في أوساط هؤلاء. فيما تذكر تحريات أمنية أن بعض الرهبان يستغلون فرصة تجمع الأفارقة المهاجرين لتوزيع مطويات ومناشير تروّج للمسيحية، وتعدهم بعيش في حياة أخرى أفضل مما يبحثون عنه في أرض المهجر التي يقصدونها.
وقال الأب تيسيي إن ما «تتعرض له الكنيسة الكاثوليكية في الجزائر لم تشهده منذ الاستقلال»، وإن مكتب أساقفة الجزائر ظل مفتوحاً رغم الظروف الصعبة التي عاشها المسيحيون مطلع ومنتصف التسعينيات، حيث تفيد إحصائيات مكتب الأساقفة أن 10 في المئة من الرهبان اغتالتهم الجماعات الإرهابية. وتعدّ حادثة اغتيال رهبان نيبحيريين بالمدية في 1994، من أشهر مذابح الجماعة الإسلامية المسلحة في حق مسيحيي الجزائر. وتذكر الرسالة أن الإجراءات المتخذة في الميدان بدعوى الوقوف في وجه التبشير «تستهدف أشخاصاً لا علاقة لهم بالتبشير».


حوار الحضاراتكما إن الجزائر من بين المناضلين والداعين إلى عدم الخلط بين الإرهاب والإسلام، إذ دعا رئيس منتدى الحضارات، الدكتور مصطفى شريف، أخيراً «المسلمين إلى تفويت الفرصة على كل متربص بالإسلام وإعطاء صورة حسنة للعالم الآخر عن طريق العلم والمعرفة والحجة وتفادي العنف إلا عندما يتعلق الأمر بالمقاومة المشروعة». كما دعا الغرب إلى التخلي عن النزعة البراغماتية ومهاجمة الإسلام باسم المسيحية، داعياً إلى «التعايش واستغلال تاريخ الماضي لمصلحة الحاضر».
وبحسب المحلل الاجتماعي، ناصر جابي، فإن «مسألة التنصير عرفت تهويلاً في الجزائر وإن بعض الأطراف تحاول إلصاقها بمنطقة القبائل من أجل تفرقة المجتمع الجزائري وتجزئته». وأضاف أن «مسألة الدين مسألة فردية ومن حق كل فرد تغيير دينه حسب قناعاته، ولا يمكن أن نمنع هؤلاء عن طريق القانون»، لكنه أعطى الحق للمجتمعات في حماية دينها والحفاظ على مقوماتها. كما رفض الطريقة التي يستعملها المبشّرون «لكونهم يستغلون مشكلات الجزائر ونقاط ضعفها لتمرير رسائلهم ونشر ديانتهم».