strong>«انتفاضة الربيع» اسم لطيف ورومانسي لأحداث العنف في مصر... رغم القتلى والمصابين والمعتقلين وتحطيم أهم مدينة صناعية في البلاد. إلا أن هناك مشاعر بأن ٦ و ٧ نيسان هما بداية خريف نظام الرئيس حسني مبارك، أو على الأقل بداية الضربات القوية التي إما أن تحدث إفاقة، أو تقود مصر إلى النفق المظلم
وائل عبد الفتاح
«الثورة» تستعيد بريقها
«ثورة على طريقة الفيس بوك». كانت هذه سخرية بعض المتشائمين من فكرة اضراب ٦ نيسان. في مقابلهم كان التفاؤل على اخره حين وصفت احداث هذين اليومين بانها «ثورة شعبية» او «بشائر المقاومة الشعبية». «الثورة»، عادت الكلمة بقوة مع احداث المحلة بعدما اختفت منذ الثمانينات مع اختفاء تنظيمات التغيير المسلح (الناصرية او الماركسية) ومن بعدها تنظيمات اسلامية استعارت تعبيرات أخرى مثل الجهاد، لكنها كلها حسبت على قائمة «الثورة الاسلامية».
«الثورة» اصبحت كلمة مستهلكة (بل وسيئة السمعة أحياناً) بعد سقوط انظمة التحرر الوطني وفشلها في بناء دول قوية ما بعد الاستعمار. كما ان التبشير بموت الايديولوجيا وصعود اللبرالية كأمل للخروج من نفق الاستبداد الطويل جعل «الثورة» حل قديم و«الثورجي» موضة قديمة. اصبحت كلمة «الاصلاح» اكثر رواجاً وتعبيراً مهذباً عن رغبة تغيير النظام.
لكن الثورة عادت في نيسان. عامل المقهى علّق على الانشغال بأخبار الاضراب بالقول: «دي محتاجة ثورة يا أستاذ». الموظف الذي اعتاد على التزام بيته في ايام المشاكل وصف ما تعرضه التلفزيونات المسيطر عليها بالقول: «الثورة آتية».
الاصلاح لم يعد كافياً. لم تنفع دعاية «الفكر الجديد» في الحزب الوطني الحاكم. ولا ربط كل طلبات الديموقراطية بعنوان «الاصلاح» الذي يفسره النظام لصالح «التغيير من الداخل» او «تجديد ديكور البيت».
الاصلاح لم يفعل شيئاً مع الفساد. لم يستطع مواجهة استشراس السلطة وتوحش اجهزة السيطرة والادارة البوليسية للدولة كلها. تحول الاصلاح الى كلمة مستهلكة. والان يعود نجم كلمة الثورة.
لكنها تعود من دون مشروع سياسي، لتواجه سلطة من دون مشروع هي الاخرى، وهو ما ينذر بفوضى أو ثورة الغوغاء كما تسميها ادبيات التحليل التاريخي.
«انتفاضة الربيع» جاءت نتيجة تسرّب مشاعر الاحتجاج الى طبقات أبعد من النخبة والتقت فيها اوجاع شرائح العمال المضطهدة بتاريخها التقليدي المعروف في التنظيم أو المطالبات والحقوق، مع جيل يخرج من القمقم، يحاول الخروج من الحجرات الشخصية الى مسرح الشأن العام. خروج عشوائي لكنه يعبر عن شيء جديد وطازج.
الجالس وحيداً في غرفته في العالم خرج من كهفه الالكتروني ليقابل العامل المطحون على ماكينات قديمة. التقت هموم نقابية مع جيل دخل الحياة من دون مقدمات ولا حواجز ولا وصاية على الافكار. صحيح ان حراس الاخلاق والافكار القديمة يطلقون صرخات التخويف والرعب ضد الحرية الجديدة. الا ان الغرام بالحرية يتسرب من تحت الحصار... وينتصر. انتصارات عفوية لكنها تعبر للمرة الأولى عن بشائر للحرية الفردية والرغبة في تكسير القيود والقواعد والخروج من الجلد الميت واكتشاف ذات مختفية بعيدة تحت ركام التعاليم الارشادية للحياة في الدين والسياسة والحب.
تلتقي للمرة الاولى مطالب الشرائح الخارجة عن اهتمام النخبة الحاكمة مع رغبات جيل في أن تكون بلده اقوى وأجمل. رغبات رومانسية ومطالب سياسية واجتماعية في لحظة لقاء فريدة جعلت العصيان هو موضة الموسم السياسية. وهي موضة مناسبة من وجهة نظر البعض في مواجهة وحشية الامن الذى ربى الخوف وضخمه في نفوس الناس التي لم تعد قادرة على الهتاف الا في استاد كرة القدم.
لكن في رأي بعض آخر فإن العصيان المدني يحتاج إلى جهاز سياسي قوي قادر على ادارة صحيحة تنجح في شل الدولة. وعصيان اوامر السلطة من دون عنف. انه الخروج عن طاعة النظام. واعلان عن رغبة الناس في توقيف العقد الاجتماعي بينهم وبين النظام والرئيس. رغبة في عقد اجتماعي جديد يحترم فيه الحاكم رغبات الشعب ولا تكون صلاحيته مدى الحياة.
العصيان المدني هو هتاف الصامتين واليائسين والراغبين في التغيير من دون انقلابات العسكر أو عمليات التنظيمات السرية. انها النداء الاخير لمجتمع مكتوم الصوت من ستين سنة. نداء قبل الفوضى المرعبة.
العصيان المدني ليس جديداً على مصر. لكنه اختفى مع فكرة «أن الدولة هي كل شيء» وعلى المجتمع الاستقالة من السياسة في مقابل تحقيق ما يريد: الدولة ستحارب من اجله وتفكر وتختار وتحب وتنام بدلا عنه. اختفى العصيان لكنه يعود الان بقوة تحت ضغط اليأس. اليأس الكبير ورغبة المجتمع في اعلان قوته من جديد.

«أفرجوا عن إسراء». هكذا أضيفت وجوه جديدة إلى السياسة في مصر. فتاة على حافة العشرينيات والثلاثينيات متهمة الآن بقيادة إضراب مصر على «الفيس بوك». إنها رمز لجيل وجد ضالته في التعبير بعد سنوات طويلة من الخنق والقمع

جيل معارض يكسر حاجز الخوف
إسراء عبد الفتاح كتبت اسمها بشجاعة للمجموعة التي دعت إلى إضراب ٦ نيسان على «الفيس بوك»، ونجحت في أن تجد الدعوة صداها عند ٦٦ ألف مشترك. صدمة كانت أجهزة النظام التقليدية تتصور أنها «نكتة أطفال الفيس بوك»، لكنها انقلبت، وها هي تتعامل معها على أنها « جريمة سياسية». بين النكتة والجريمة كانت دموع إسراء بعد قرار النيابة بحبسها ١٥ يوماً، رغم أنها ليست زعيمة جاهيرية ولا قائدة شوارع. إنها من جيل ولد ممنوعاً من السياسة وتربى على أن التعبير عن الرأي خطر وخطيئة. من هذا الجيل خرجت إسراء (التي لم يكن لها علاقة بالسياسة قبل انضمامها إلى حزب الغد قبل عام واحد فقط). ومن بيتها إلى سجن القناطر كانت رحلتها من المعارضة الافتراضية إلى القبضة الحديدية للنظام.
في سجن المرج، وجوه من جيل المدونات و«الفيس بوك»، أشهرهم محمد الشرقاوي الذي يعتقل للمرة الثانية. في الأولى تعرض للتعذيب ولم يكن سوى طالب يحاول أن يكمل الدراسة، أما الآن فهو صاحب دار نشر وعلامة على جيل غاضب على الجميع (رغم أنه ينتمي إلى «كفاية»، إلا أنه متمرد عليها).
إنه جيل المعارضة أو الاحتجاج الإلكتروني، بدايته مع المدونات الشخصية والآن يلتقي في مجموعات «الفيس بوك». طليعة جيل الغضب خرجت من جزر الإنترنت المعزولة في الشارع بسبب عنف وبطش شرطة النظام.
شباب من العشرين إلى الاربعين تربّوا على الخوف من السياسة وكراهية العمل الجماعي. فالنظام لا يحب أن يتكلم أحد في السياسة من دون إذن وتصريح. ويكره أي جماعة بعيدة عن صناعة يده. وهؤلاء وجدوا في الإنترنت مساحة حرة، يكتبون فيها بلا مخبر ولا رقيب. كتابة متمردة، غاضبة، تحطم أسوار المحرمات، كلها سياسة وجنس ودين. تتنفس حرية وتعيش في جنّة افتراضية.
ومع سخونة الأحداث السياسية، انتقلت المدونات من جزيرة للأحلام الشخصية ومحاولة التعبير بلغة متحرّرة إلى حائط تنشر عليه الوقائع كما تحدث، إلى أن وقعت كارثة اغتصاب المتظاهرات أمام ضريح سعد زغلول يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76. هناك ولدت الرغبة في الخروج الجماعي إلى الشارع. رغبة جيل في التغيير. في مصر جديدة بلا رئيس أبدي.
خروج المدونين كان الظاهرة الأهم في حركة المعارضة الجديدة، لأنهم فرادى لا تنظيمات. حضورهم طازج وساخن بلغة هاربة من جمود السياسيين القدامى. ورغبة حارقة في تعبير جديد عن الذات والمجتمع. اللجوء إلى الإنترنت هو محبة وهروب من مصير التعليم الرسمي في الوقت نفسه، ورغبة في ثقافة مفتوحة خارج توابيت التحنيط في ثقافة المدارس والجامعات في مصر.
شرائح اجتماعية ترى التعليم والثقافة مهارتها الوحيدة، بعدما طارت الأحلام بالثروة مع الفساد. وهناك على الإنترنت ولدت فكرة «إننا نستحق أن نكون مجتمعاً أفضل» و«إننا أصحاب مصر».
ولد هذا الجيل ومصر بلا رموز كبيرة. سنوات الصمت الطويلة أسفرت عن فراغ كبير من دون شخصيات تمثل علامات إرشادية للخروج من نفق الأنظمة المستبدة. هذه حقيقة عاشتها مصر على المستوى السياسي (بشكل خاص) طوال السنوات التالية لصعود متعهدي الصفقات السرية مع أجهزة أمن الدولة إلى قمة الأحزاب التي ماتت سريريّاً بعد 25 سنة من عمليات الخنق البطيء.
الحركة السياسية ظلت تحت السيطرة، وتحولت إلى صحراء يملكها الحزب الحاكم بوضع اليد. وكان السؤال المؤلم: «من الذي يمكنه أن يكون البديل أو يجسد أحلاماً كبيرة في مواجهة احتكار النظام الحاكم؟».
لم يتوقع أكثر المتفائلين أن تعود الحياة إلى الصحراء. عادت حين فكت قبضة النظام بفعل ضغوط الخارج وسمح بفكرة الخروج إلى الشارع (خروج محدود ومحاصر بآلاف من أصحاب البذلات السوداء). تخلت السلطة بتحفظ عن خوفها من نزول الناس إلى الشارع. صممت نظامها السياسي على تحويل الشوارع إلى مواقف سيارات وأقامت أسواراً عالية تحجز الناس خلفها وغيّرت شكل الميادين لكي لا تتحول إلى ساحات للحرية.
«كفاية» تمردت على التصميم الحديدي وكسرت حاجز الخوف. غيرت شكل الشارع، وأصبح منسقها جورج إسحاق أشهر وجوه التغيير في مصر. جورج لم يكسر فقط حاجز الخوف من النزول إلى الشارع، لكنه كسر أيضاً احتكار قيادة الشارع لنجوم «الإخوان المسلمين». فهو أول مسيحي منذ أيام سعد زغلول يتقدم الصفوف ويعبر عن شوق لمعارضة تبني مواطنة لا يحتكرها أبناء دين أو عائلة.
جورج إسحاق يثير كل المؤسسات المغلقة. أمن الدولة يتحيّن فرصة للقبض عليه. «الإخوان» يخافون من براعته الهادئة في تكسير سيطرتهم على المعارضة في مصر. وأقباط المهجر يعدّونه من «الإخوان» المسلمين. إنه رمز لمعارضة مفتوحة تتكوّن في شارع تعوّد صمتاً طويلاً. يحقق التوازن بين التيارات الحماسية في «كفاية» ويحرّك كاميرات الفضائيات وراء إبداعات جديدة في الاحتجاج. وجوده في أي مكان هو علامة على الروح التي ولدت صدفة ضد التمديد للرئيس أو توريث ولده جمال.
قد يكون جورج إسحاق هو الجسر بين الاحتجاج وتكوين وعي جديد للمعارضة، وهذا ما جعله هدفاً حيّاً للاعتقال. هو اليوم متهم بقيادة إضراب ٦ و٧ نيسان. ومنهك في ماراثون التحقيقات. لكنه بالتأكيد استعاد حيوية حركته، التي كانت على وشك الموت السريري، ومدّ جسورها مع جيل الغضب الإلكتروني.

strong>يوم «سقط الصنم»
«شاهدوا فيديو سقوط الصنم». هذا ما كتبته مدونة «الوعي المصري» عن لقطات من المحلة الكبرى ستدخل التاريخ لجماهير غاضبة حاولت في البداية تمزيق صورة ضخمة للرئيس حسني مبارك في أحد الميادين. التمزيق لم يشف الغليل. وتصاعد الغضب واستمر الغاضبون في هز أعمدة الصورة حتى سقطت، فبدأت حفلة الركل والضرب بالأحذية. مشهد لم يكن أحد يتخيل أنه سيحدث في حياة مبارك. الجماهير تحطِّم نصب الرئيس وهو حي. وكالات الأنباء تنقل الصورة. والمواقع الإلكترونية تسجل تفاصيل السقوط. رسالة مخيفة للرئيس الأب وهيبة نظامه. فالجماهير تستعيد اللحظة الشهيرة لسقوط صدام حسين من دون الجندي والعلم الأميركيين. لكن لحظة السقوط حاضرة، بخلفياتها حين توافق الغضب والفوضى والخروج إلى الشوارع وتكسير رمز من رموز هيمنة السلطة. نصب الرئيس سواءٌ أكان صورة ضخمة أم تمثالاً بالحجم الطبيعي. وهي رسالة انتقام رمزية تنتزع الحق الضائع في اختيار الرئيس أو إزاحته بتكسير صورته وإهانتها بالأحذية. وهذه الثورة الرمزية تجاوزت فكرة السخرية أو تصغير الحاكم (رمز السلطة) إلى فكرة أخرى، وهي الاعتداء على سلطته.
الصورة تناقلتها المواقع الشخصية على الإنترنت كأنها أيقونة معارضة. وتعمم اسم سقوط الصنم. وصدام لم يكن غائباً. استدعت الصورة سيناريو الصور المتلاحقة بعد سقوط التمثال، حين تخفّى في صورة شحاذ وعاش في حفرة، ثم وهو يحاكم. صور تشحن الخيال السياسي وتدخل مجال مقاومة السلطات ربما للمرة الأولى. الصورة لم تكن من التراث السياسي العربي. الخطابة هي ميدان الحروب والشعارات، هي السهام الصائدة للأعداء. الصورة ليست على جدول ذاكرتنا. أحداثنا شفوية. خطبة الوداع. قصائد المتنبي. مراثي الخنساء. الصورة الآن هي الحقيقة. هي الحدث. ليس هناك أمل في انتخابات تقوّل رأي المصريين في نظام مبارك. لكن الصورة قالت. تحولت إلى تميمة الرفض تعلق على مداخل المدونات، كما كانت تعلق رموز الشر على جدران البيوت (كائنات ورقية تظل الأمهات تخزها بالدبابيس كل يوم لتتخلص من روحها الشريرة وطاقتها في إيذاء حياة الضعفاء).
رسالة عنيفة وصلت إلى الرئيس في القصر. كما وصلت إلى عائلته. رسالة مصورة أقوى ألف مرة من تقارير أمنية تقول إن «كل شيء تمام». ربما غيرت الصورة الأوضاع في القصر. وأسكتت جبهة الابن (جمال) وأعادت صوت الجبهة القديمة بأساليبها في إعادة صورة الرئيس إلى مكانها.
وربما صدرت أوامر بنزع صور الرئيس من كل مكان لكي لا تتحول إلى هدف الغضب الآتي. لكن الحقيقة أن الصورة كانت أقوى تعبير عن حالة مصر. وهي استمرار لحرب صور تتصاعد منذ سنوات يقودها جيل يدرك قوة الصورة في كسر هيمنة النظام.
في المقابل، حاولت أجهزة الأمن تطوير أساليبها، فركزت في تغطيتها الإعلامية الموجهة على صور التخريب. وبدا أن هناك عقلية متيقظة وراء التصوير الأمني. حرب الصور انتصر فيها مشهد سقوط صورة الرئيس... حتى الآن.