باريس ــ بسّام الطيارةبات ممكناً لإيطاليا أن تصرخ «النجدة لقد عاد برلوسكوني». لكن لسان حال فرنسا اليوم «النجدة نيكولا ساركوزي يفكّك النظام الاجتماعي». بالطبع لا يزال المقرّبون من قصر الإليزيه يقولون إنّ الرئيس يطبّق البرنامج الانتخابي الذي طرحه أمام مواطنيه وانتُخب على أساسه. وهنا، يجب الاعتراف بأنّ قطار «الساركوزيّة» لا يعرف التوقف، رغم تراجع شعبية الرئيس. وهو إن توقّف، فلكي يلتقط أنفاسه في وجه استطلاعات الرأي العام، وفي بعض الأحيان للتراجع عن بعض القوانين غير الشعبية، قبل متابعة مسيرته في الاتجاه نفسه.
تحذيرات كثيرة تصدر من اليسار، ولكن أيضاً من اليمين، مفادها أنّ المعارضة الشعبية للإصلاحات، هي معارضة لوجهة سير هذه الإصلاحات المتمادية في ليبراليتها الفاجرة. فخطّ سير إصلاحات ساركوزي وفريقه هو «يمين در وخصخصة شاملة» في كل الميادين. سياسة بدأت في الجامعات، وانتقلت إلى نظام التقاعد والتعويضات، قبل أن تصيب النظام التربوي وتدفع بالطلبة إلى الشوارع كما حصل أمس.
ورغم كل هذا، فإنّ قطار «الإصلاحات» لا يتوقّف، وآخر فصولها ثلاثة إجراءات جديدة يمكنها أن تدفع نحو تحرّكات اجتماعية حامية؛ فقد قرّرت الحكومة الفرنسية تغيير نظام تعويضات البطالة، بحيث يصبح أكثر صرامة، وبالتالي تخفيض عدد المستفيدين منه.
ولا يعترض المعترضون على الهدف بقدر ما يعترضون على «فلسفة المشروع». بالطبع، يتفق الجميع على وجوب تنقية الفساد من هذا النظام، أي التشديد على الذين يستفيدون من التعويضات من دون البحث عن عمل جاد.
إلا أنّ الإجراء الجديد يفرض على كلّ عاطل عن العمل، القبول بأي وظيفة تُعرَض عليه، حتى لو كانت المواصلات تتطلب ساعتين حداً أقصى للوصول إلى مركز عمله، وبراتب يمكن أن يقلّ حتى سبعين في المئة عن معاشه الأخير. ويُتوقع أن تقوم قيامة النقابات ضدّ هذه الإجراءات التي ستزيد من سحق العاطلين عن العمل، البالغ عددهم اليوم مليونين و٢٠٠ ألف فرنسي، يعانون الأمرّين بسبب تراجع القوة الشرائية لتعويضات العطالة، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ومن المعروف أن مليوني فرنسي من العاملين يتقاضون الحد الأدنى للأجور البالغ حوالى ٩٦٠ يورو.
إن هذه الإجراءات تزيد من الشرخ في المجتمع الفرنسي، إذ تبدو كأنها تشير إلى أنّ العاطلين عن العمل يمثّلون طبقة «كسولة»، بينما هم في الواقع يدفعون ثمن تراجع الاقتصاد الفرنسي بشكل عام، وارتدادات العولمة والليبرالية التي أفضت إلى «هجرة المصانع» بحثاً عن أيد عاملة رخيصة.
أما الإجراء الثاني، فيتعلّق بفكّ الارتباط بين «الحدّ الأدنى للأجور»، وارتفاع كلفة المعيشة. وكان هذا الربط في السابق يستهدف عدم اضمحلال الحد الأدنى للأجور، للمحافظة على «معناه الاقتصادي المرتبط بصفته»، كما يقول أحد الخبراء.
وفي سياق البحث أيضاً عن «توفيرات في نظام الضمان الاجتماعي» كما تقول الحكومة، أو السعي لـ«دفع هذا النظام نحو القطاع الخاص» كما يقول المعترضون على إطلاق عنان الليبرالية الاقتصادية، فقد تحدثت وزيرة الصحة روزلين باشلو عن التوقف عن «تعويض ثمن النظّارات الطبية»، مع أنّ النظام الحالي لا يؤمّن أكثر من ٥ في المئة من هذا التعويض، ما دفع البعض للقول إنّ ضعف النظر ليس مرضاً بحسب مفهوم الليبرالية.
بين برلوسكوني وساركوزي خيط رفيع، يربطهما بحظيرة النيوليبرالية الفاحشة، ويضعهما في حظيرة «التاتشيرية» البريطانية و«الريغانية» الأميركية. وكل ما يتخوّف منه الخبراء أن يقود الرئيسان الليبراليان فرنسا وإيطاليا إلى إفلاس تام في مجال العناية الصحية، كما حصل في بريطانيا في عهد مارغريت تاتشر، واختفاء الضمان الاجتماعي لصالح شركات التأمين (أميركا في عهد رونالد ريغان نموذجاً) والدفع سياسياً نحو مجتمع تسوده فلسفة المحافظين الجدد.