strong>تغيّرت الرهجة التاريخية التي اعتادت أن تفرضها زيارة رئيس وزراء بريطانيا إلى الولايات المتحدة ضمن إطار «العلاقات المميزة». فالشخصية الجديدة في هذا المنصب أرادت أن تفرض صيغة مختلفة، علاقة مميزة مع واشنطن، لكن متمايزة، حرصاً على سمعتها التي تقتضي ألا تكون «جرواً» لأحد، على الأقل علناً
ربى أبو عمو
يدرك رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون، الذي حل أمس ضيفا «ثقيلاً» على واشنطن، أنه لن يسمع تصفيقاً أميركياً. فهو ليس سلفه طوني بلير، ولا سيما أن الساكن الجديد لـ «10 داونينغ ستريت» اختط لنفسه مساراً جديداً أقل مما يريده الرئيس الأميركي جورج بوش.
بعد انتخاب براون في هذا المنصب، جلس بوش في إحدى غرف البيت الأبيض المفضلة لديه مع مستشاريه المقربين. كان عليهم أن يناقشوا سير «العلاقات المميزة» مع بريطانيا. في أول اللقاءات التي جمعت بوش وبراون، حاول الرئيس الأميركي تكريس صيغة الـ«B.B.F» مع رئيس الوزراء البريطاني، وتعني الصديق الأفضل مدى العمر. ربما هي عبارة ألطف تستبدل صفة «الجرو» التي صبغت مسيرة بلير مع بوش.
مازح بوش براون. بدأ الحديث عن الرجال في عمر الأربعين. خاطب الضيف البريطاني بوش قائلاً: «هل تعلم أن ستة من وزرائي لم يبلغوا الأربعين بعد؟». ضحك الرئيس الأميركي قائلاً: «لا بد أنك تشعر بلعنة الكبر».
ذاب الجليد، ولكن ليس إلى الدرجة التي أرادها بوش؛ حقّق براون تمايزاً في الموقف البريطاني تجاه السياسة الخارجية الأميركية، فكان البديل هذه المرة فرنكفونياً. فالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أراد أن يرث بلير، ليصبح «رجل أميركا في فرنسا».
تعود العلاقة الأميركية ـــــ البريطانية إلى نحو 200 عام، قبل أن تعلن الولايات المتحدة استقلالها عن المملكة المتّحدة. شاركت واشنطن إلى جانب لندن في الحرب العالمية الثانية، واستمرّ هذا التحالف القوي في الحرب الباردة وحرب الخليج الأولى. كانت المملكة المتحدة القوة الوحيدة الكبرى التي دعمت قرار الولايات المتحدة في حربها على العراق.
هذه الرؤى الاستراتيجية المشتركة، كرستها شخصيات الثنائية بين البلدين، بدءاً برئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل والرئيس الأميركي فرانكلن روزفلت، تليهما رئيسة الوزراء البريطانية مارغرت تاتشر والرئيس رونالد ريغن، لتختم بالثنائي بوش وبلير.
ورغم كراهية الشعب البريطاني للرئيس الأميركي، اتخذ بلير موقفاً قوياً بتأييده الحرب على العراق، قائلاً إن «الولايات المتحدة وبريطانيا لديهما مصالح مشتركة». أراد بذلك أن يكون جسراً بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى، وخصوصاً أن فرنسا وألمانيا رفضتا السيطرة الأحادية للولايات المتحدة.
إلّا أن براون لم يستطع حلّ المعادلة «البليرية»، فكان عليه البحث عن أخرى لاعتبارات عديدة؛ بدأ العد العكسي لمغادرة بوش الكرسي الرئاسي، يضاف إلى ذلك سعيه إلى إرضاء الداخل البريطاني وحزب العمال الذي أسقمه بلير، فكان لا بديل من التمايز.
هذه الاعتبارات، دفعت براون إلى محاولة خلق مسافة واحدة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، إذ رأى أن الدور الحيوي للاتحاد يتجلى في تأمين الحماية داخل حدوده وخارجها، على غرار واشنطن.
وفي الحرب العالمية على الإرهاب، لم تأخذ إدارة براون موقفاً حاسماً. «فرغم التهديد الذي يمثّله الإرهاب تجاه كل المجتمعات، ويؤثّر على أساليب الحياة، إلّا أنه لا يمثّل في هذه الأثناء تهديداً استراتيجياً». وبعكس بوش وبلير، رفض رئيس الوزراء البريطاني الجديد اعتبار أن «الإرهاب الإسلامي سيدمر الحضارة الغربية». طالب بإجراء مفاوضات مع حركة «طالبان» وحزب اللّه، قائلاً: «ما يجب فعله في النزاعات، هو مناقشة الناس الذين يعتقدون أن طموحاتهم تتحقق من خلال العنف، وتحويل أفكارهم إلى إطار آخر يضمن لهم تحقيق طموحاتهم السياسية بواسطة السياسة». إذاً تراجعت وتيرة «العلاقات المميزة» الأميركية ــ البريطانية، وكان ساركوزي جاهزاً للانقضاض على المساحة القليلة الفارغة. ركب حصان بلير الخاص بالبيت الأبيض، وقلب السياسة الفرنسية الثابتة منذ عهد شارل ديغول، وحتى عهد جاك شيراك؛ فعقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أعلن الرئيس الفرنسي آنذاك ديغول مسؤولية إسرائيل عن اندلاع هذه الحرب، لتكرّس فرنسا بذلك سياستها الداعمة للعرب، ضمن عنوان عريض يقول إن للعرب حقاً في أرضهم التي احتلتها إسرائيل.
غيّر ساركوزي العقيدة الفرنسية التاريخية، آمن بمركزية العلاقات الفرنسية ـــــ الأميركية، وبضرورة منافسة بريطانيا على كسب ثقة واشنطن، فضلاً عن علاقته المميزة بالمحافظين الجدد. انتقد موقف شيراك الرافض للحرب على العراق. رفض إعادة العلاقات مع سوريا، ليتماهى موقفه مع الموقف الأميركي في الصراع العربي ــ الإسرائيلي، إذ يجد إسرائيل «نموذجاً فريداً للديموقراطية».
ربما باتت فرصة قيام أوروبا قوية موازية للولايات المتحدة بعيدة المنال، بعدما سلكت فرنسا السلوك الأميركي بحذافيره، حتى يمكن القول إن الرئيس الفرنسي قد يلجأ إلى استبدال لغته الفرنسية بالإنكليزية، إذا اقتضت المصالح الفرنسية الأميركية المشتركة ذلك. أما براون، فسينتظر مغادرة بوش البيت الأبيض، ليعيد التفكير في سياسته، فهل يتابع وفقاً للخطى نفسها التي بدأها، أم يعيد صياغتها؟
وحين يفتح بوش باب البيت الأبيض، ملوحاً للمصورين، مطلقاً ابتسامته وتجاعيده، قد يهاتفه براون ليذكره بالجملة التي قالها له مرة: لا بدّ أنك تشعر بلعنة العمر، ولعنة الخيبة. لم تحوّلني إلى «جروٍ» آخر، وهنيئاً لك بساركوزي.