تحقّق استراتيجية السعودية في الحرب النفطية الدائرة نجاحاً واضحاً. الهدف الذي حدّدته الرياض خلال العام الماضي، والقاضي بعدم السماح للمنتجين الجدد ـ تحديداً الشركات الأميركية التي تستفيد من النفط الصخري ـ ببيع براميلهم عند مستويات سعرية مرتفعة، وصولاً إلى تحجيمهم في السوق وطرد البعض منها، يتحقق بشكل أو بآخر.تراقب الرياض حالياً، بحماسة، كيف يتراجع عدد المنصات النفطية في الولايات المتّحدة إلى أدنى مستوى له منذ عام 2011 نتيجة تراجع عامل الربحية، وكيف يُصنّف دين شركة مثل Transcorean، التي تُعدّ الأكبر عالمياً في إدارة المنصات النفطية البحرية، في درجة «الخردة».

ضحّت السعودية ببضعة مليارات الدولارات لتحقيق ذلك. أي إنّ موازنتها ستُعاني، خلال العام المالي الحالي، عجزا يقارب 40 مليار دولار ـ أي ما يعادل قيمة الاقتصاد اللبناني برمته. أما مجموعة «أوبك»، باستثناء إيران، فستتقلص إيراداتها هذا العام بواقع 446 مليار دولار مقارنة بعام 2014، وستبلغ 703 مليارات دولار.
ولكن كلّ ذلك كان ضرورياً لضمان أن اللاعبين الجدد لن يحجزوا مقعداً ثابتاً لهم في السوق، على الأقل في المدى المتوسط، ولضمان أن تصل رسائل أخرى إلى العمالقة الآخرين في السوق، على رأسهم روسيا وإيران، بأن السعودية ستحارب حتى النفس الأخير.
السؤال هو ما إذا
كانت روسيا ستعلق في فخّ فائض إنتاج الغاز

حالياً هناك سيناريوهات مختلفة حول المرحلة المقبلة للنفط، بين من يفترض أن السعر سيبقى تحت تأثير الضغوط النزولية، ربما وصولاً إلى 40 دولارا للبرميل، ومن يرى ارتداداً سريعاً. الأمور تبدو ضبابية.
وإذ تتعلق هذه السيناريوهات بمستويات الإنتاج وسياسات الدول العظمى في هذا المجال، هناك أيضاً تأثير الدولار الذي يُعدّ حاسماً في تحديد السعر، فالدولار الرخيص يرفع الطلب على الوقود الأحفوري، والعكس بالعكس. ولكن التطوّرات في سوق النفط ليست الوحيدة التي يجب رصدها على مستوى سياسات الطاقة في العالم، إذ إن النمط المسجّل في قطاع الغاز الطبيعي مشابه كثيراً لما يحدث على صعيد النفط؛ وهنا التعقيدات كثيرة أيضاً، الفارق هو أنها تتعلق بمورد صنّفه المتفائلون خلال السنوات القليلة الماضية على أنه «خليفة النفط» في سوق الطاقة.
تماماً كما في حالة النفط، يشهد إنتاج الغاز الطبيعي فورة ملحوظة نتيجة الاكتشافات الجديدة في أميركا الشمالية، وفي مناطق أخرى. السعوديون مثلاً يتحدثون صراحة عن الاستفادة من تقنيات استخراج الغاز والنفط الصخري، التي طورتها الشركات الأميركية وتُطبقها في الحقول هناك، ونقلها إلى أراضي السعودية.
هذا العام، من المتوقع أن يرتفع إنتاج الغاز الطبيعي المسال (LNG) بواقع 14 مليون طنّ متري ـ أي ما يوازي نمواً بنسبة 5%، وهو معدّل التوسع الأعلى في الإنتاج منذ عام 2011.
ولكن هذه الفورة بكلّ الهالة التي أحاطت بها قبل خمس سنوات، وعنوانها «الزمن الذهبي للغاز الطبيعي»، لا تُترجم إيرادات دسمة للمنتجين، فالأسعار تُسجّل حالياً أدنى مستوياتها خلال أربع سنوات بالحد الأدنى (طبقاً للمنتج المعني، طبيعيا كان أو مسالا، واستناداً إلى السوق التي تُقوّمه، لكون الغاز لا يُتداول بعقود في السوق المالية، بل وفق اتفاقات البيع وآليات التسعير المباشر ـ Spot Pricing).
«إنه الزمن الذهبي للغاز فعلاً، ولكن لمصلحة المستهلكين، فالمستثمرون في منشآت الغاز الضخمة، مثل معامل التسييل، يتأذون» من السوق. هكذا وصفت مجلة «إيكونوميست» أخيراً الوضع في سوق الطاقة الحساسة هذه.
الخطوط العديدة والمتشابكة التي ترسمها جغرافية الغاز على الأجندات السياسية تُفسّر الكثير على صعيد التحوّلات الدولية. لعلّ أبرز المتأثرين بسوق الغاز وتغيراتها هي روسيا.
فمثل حالة منتجي النفط الصخري الأميركيين مع السعودية، تجد روسيا نفسها في وضع حساس في سوق الغاز، إذ إنها تعتمد على النفط والغاز لتأمين قرابة ثلثي إيراداتها من الصادرات.
موسكو بحاجة إلى هذه الأموال لتأمين قوّة رفع استراتيجية على مستوى التحديات الإقليمية والعالمية. خلال العام المالي الحالي 2015، ستتراجع إيرادات شركة الغاز الروسية العملاقة، «غازبروم»، إلى 99 مليار دولار. صحيح أن معدّل التراجع هنا متواضع نسبياً ولا يصل إلى 8%، غير أنه يُعد الأول منذ عام 2009؛ ولهذا الوضع دلالات كثيرة حول النمط المتوقع في المراحل المقبلة. فنتيجة الصراع القائم مع روسيا، عند تخوم حدودها الشرقية، تسعى بلدان أوروبا الغربية إلى تنويع مصادرها من الطاقة، وإلى مضاعفة الاستثمارات لتعزيز فاعلية استهلاك الطاقة في مختلف المجالات. التحوّل لن يحدث بين ليلة وضحاها غير أنه آت لا محالة.
يُشار أيضاً إلى أن نصف عقود الغاز الأوروبية المعقودة مع روسيا مرتبطة بسعر النفط عبر علاقات طردية. وبحسب ما تنقله وكالة «بلومبيرغ» عن المجموعة المصرفية الأميركية، City، فإن انخفاض أسعار النفط سيبدأ بالتأثير على قيمة عقود الغاز طويلة الأجل لروسيا بدءاً من نيسان المقبل.
تأتي مشكلة الغاز لتزيد الضغوط على موسكو. فخلال العام الماضي، وبسبب العقوبات الغربية المفروضة عليها، أنفقت قرابة 80 مليار دولار للدفاع عن الروبل والحؤول دون تدهور سعر صرفه إلى مستويات الإنهيار الكامل.
لذا فإن على موسكو تعزيز ترسانتها المالية والنقدية، وتحديداً احتياطاتها من العملات الصعبة التي تحصّلها من الصادرات، تحوطاً من أي تدهور إضافي؛ والمهمّة ليست سهلة.
أخيراً، عمدت وكالة التصنيف الائتماني، «موديز» ـ وهي إحدى الوكالات الثلاث التي ارتضى النظام المالي العالمي أن تُحدد مستوى الكفاءة المالية للبلدان والشركات ـ إلى خفض تصنيف ستة مصارف خاصة في روسيا، وذلك بعدما كانت قد خفضت تصنيف دين البلاد السيادي إلى درجة الخردة. تشرح الوكالة أن «خفض التصنيف يعكس تدهور البيئة التشغيلية في روسيا»، وأنّ الركود الذي تعيشه البلاد يضغط على موازنات المصارف المعنية.
من هنا تعزز موسكو تحالفاتها القائمة لإمداد الغاز إلى الصين ـ عبر مشاريع بمئات مليارات الدولارات خلال العقدين المقبلين ـ وإلى كوريا الجنوبية، وحتى تعمد إلى إعادة تقويم بعض العلاقات في محيطها لضمان الوفاء، وتقوية النفوذ الإقليمي.
أكثر من ذلك، وأبعد من المصالح الاقتصادية، وصل النشاط الروسي على الساحة الدولية، إلى تحصين وجودها المتوسطي عبر اتفاقات مع قبرص تشمل نواحي عسكرية، وربما وعوداً لتمتين علاقات اقتصادية وطيدة تشهد عليها مصالح الروس في ليماسول.
ولكن برغم المعطيات السائدة حالياً، فإن سوق الغاز ليست في ثبات مديد، إذ إن السنوات الخمس المقبلة تحمل تغييرات هائلة للسوق، لناحية توزع النفوذ ودخول اللاعبين الجدد بقوّة. أبرزها هو أنه مع بداية العقد المقبل، ستصبح أستراليا على رأس البلدان المصدّرة للغاز الطبيعي متخطية قطر، الإمارة التي تتربع حالياً على العرش العالمي معتمدة على خيرات طبيعية تستغلها لمحاولة تنويع مصادر دخلها. وخلال ثلاثة أعوام ستصبح القدرة التصديرية العالمية عند 400 مليون طنّ سنوياً، بزيادة قدرها الثلث مقارنة بالمستوى الذي كان سائداً قبل ثلاث سنوات.
نحن نتحدّث هنا عن الكميات المصدّرة عالمياً فقط، من دون احتساب الكميات المستهلكة محلياً في البلدان المنتجة؛ مثلاً الولايات المتّحدة ستبدأ هذا العام بتصدير غازها، بعدما وصلت إلى مراحل عليا من تلبية جوعها المحلي للطاقة.
اليوم تنعكس جميع هذه المعطيات في سوق الغاز تراجعاً في الأسعار، غير أن اللعبة بين المنتجين الكبار ستصبح أكثر خطورة خلال المراحل المقبلة. العامل الأهم فيها هو ضمان خطوط التصدير والزبائن، ولكن هناك أيضاً المقايضات، مثل معادلة «رفع العقوبات مقابل التخلي عن العقود».
لذا فإن السؤال هو ما إذا كانت روسيا ستعلق في فخّ فائض إنتاج الغاز، تماماً كما علقت شركات النفط الأميركية في الفخ السعودي؟ المتفائلون بقدرة روسيا على الصمود يُشدّدون على أهمية علاقاتها مع الصين والحلفاء الآخرين في آسيا لتصريف إنتاجها السخي. أما المخيم الآخر، فيشدّد على أنه في ظلّ الأسعار المنخفضة لن تكون الإيرادات المحققة عند المستويات المطلوبة، وخصوصاً إذا استمرت الضغوط الغربية، وسياسة العزل عبر العقوبات.
لن يطول الأمر كثيراً قبل معرفة الجواب.