... وأصبح التعلّم لزوم ما لا يلزم زيد الزبيدي

بين أيّام العطل الرسمية الكثيرة، وأيّام حظر التجوال المفاجئة، تتسرّب أيّام العام الدراسي في العراق، فلا يشعر الطلبة إلا وقد شارف على الانتهاء. وهنا تنطلق صفارات الإنذار في المدارس والمنازل، فيحاول المدرّسون تكثيف المواد لإكمال المناهج المقررة، ويطارد أولياء الأمور المدرسين لمساعدة أولادهم. ومع قصر أيام العام الدراسي، يظلّ همّاً مضافاً على الجميع، منذ فقد التحصيل الدراسي أهميته لدى الطلبة، وصارت سلامة الأبناء وتأمين معيشتهم أهم بكثير لدى الأهالي من حصولهم على شهادات علمية.
ويعزو مدير مدرسة الجواهري في الكرخ، حاتم جمعة، سبب انخفاض المستوى الدراسي لدى الطلبة في السنوات الأخيرة، إلى «الظروف القاسية التي مرّت بالعراق، وأثّرت سلباً على التزام الطلبة بالدوام، ابتداءً من الفوضى التي أعقبت سقوط النظام السابق، وحتى شيوع العنف الطائفي، وما أعقبه من تهجير قسري، إذ فقد الكثير من الطلبة منازلهم، وتغيرت مدارسهم، وعاش بعضهم ظروفاً سيئة جعلت الدراسة بالنسبة إليهم من الكماليات».
ولا ينسى جمعة الإشارة إلى مفردات التكنولوجيا الحديثة التي أثّرت كثيراً على الطلبة، «فصار انهماكهم بالإنترنت والموبايل والستالايت أكبر بكثير من انهماكهم بالدراسة، إضافة إلى تأثرهم بأجواء العنف السائدة في البلاد وما تنقله لهم القنوات الفضائية ومواقع الإنترنت، وانعكاس ذلك على أسلوبهم في التعامل في ما بينهم ومع مدرّسيهم».
وإذ حظي صفّ المشاغبين في المسرحية المعروفة «مدرسة المشاغبين» بأستاذة عملت على تقويم أفراده بالعقل والمنطق السليم، فإنّ ما يحصل في صفوف مدارس العراق اليوم يحتاج إلى أكثر من ذلك؛ ففي متوسّطة للبنين في بغداد الجديدة، حصلت مشادة كلامية بين طالب في المرحلة المنتهية ومدير المدرسة، انتهت بطعن الطالب للمدير بسكين واستدعاء المدرسين لدورية الشرطة القريبة من المدرسة للقبض على الطالب.
ويقول المدرّس، سعد أمين: «كان بعض مديري المدارس يغالون بالقسوة على الطلبة، بهدف تنوير طريق المستقبل لهم، أما الآن فيخشى الأساتذة حتى من تهديد طلبتهم بعدما وقعت حوادث عديدة راح ضحيتها مدراء ومدرسون، لم يتوقعوا طبعاً استنجاد الطلبة بميليشيات أو عصابات تأخذ بثأرهم، أو انتسابهم إليها أصلاً!».
ويفسّر أمين ذلك بموجة العنف والفوضى، التي ضاعت خلالها قيم عديدة، من بينها «قيمة العلم واحترام المعلم، وصار بالإمكان أن ترى أسلحة بين كتب الطلبة، وتحت ملابسهم، مع وجود الجرأة الكافية لاستخدامها».
وترى تماضر كاظم، وهي موظفة وأم لثلاثة طلبة، أنّ الخلل «لا يكمن في الطلبة فقط، بل بالعملية التربوية برمتها، فقد تخلّت الحكومة عن دورها في العملية التربويّة وتركت المهمّة للمدارس، وصار التدريس يعتمد على الضمير فقط، وصار المدرس لا يخشى حساب الضمير».
وبالنسبة إلى الفتيات الطالبات، يمكن ضرب مثل بسيط واقعي: نظرت بعض الطالبات بحسد واضح إلى زميلتهن طالبة الصف المتوسط الثالث، البالغة فقط 15 عاماً، حين التمع في إصبعها الأيمن خاتم خطوبة، بينما تحدثت الفتاة بزهو عن اقتراب زواجها، وسفرها إلى الخارج. والدراسة؟ سألتها إحدى زميلاتها بفضول، فقالت إنها تكتفي بالحصول على شهادة المتوسطة، «فما الذي ستقدمه لي الكلية أفضل من فرصة زواج جيدة؟».
تسلّلت هذه الفلسفة إلى صفوف طالبات المدارس منذ سنوات، بسبب شحّ فرص الزواج، وضبابية مستقبل المتخرجين، وتضاؤل الحرص على نيل شهادة علمية. وصار سعي الطالبات لدخول مدارس المتميزات الخاصة بالمتفوقات أو حصولهن على درجات جيّدة، يُعَدُّ شذوذاً.
وفي مثال آخر، روى الأب لأولاده بزهو واعتزاز كيف كان يدرس في منطقة ريفية، وكان يتعذر عليه بلوغ مركز الامتحان الوزاري في المدينة في السادس ابتدائي، فبادر أحد المعلمين لأخذ الطلبة معه إلى مركز المدينة والمبيت معهم في إحدى المدارس التي خُصّصت آنذاك لمبيت طلبة القرى لمدة أسبوعين، ومراجعة المواد الامتحانية معهم ومرافقتهم إلى قاعة الامتحان، ثم العودة إلى مقر مبيتهم، ليطهو لهم الطعام ويغسل ملابسهم.
نظر الأب بعد ذلك إلى عيون أولاده ليقرأ ردّ فعلهم، فلم يلاحظ شيئاً فريداً. كانوا ينصتون إليه فقط، ثم سأله أحدهم بغتة: «هل ستدفع لي قسط درس الفيزياء؟ لا يكفّ المدرس عن مطالبتي به أمام زملائي».
حيدر إسماعيل، مدّرس لا يلقي باللائمة على الأساتذة فقط في مسألة الدروس الخصوصية، بل يجد أنّ انخفاض رغبة الطلبة في التعلم واستيعابهم للدرس، نتيجة للظروف التي يمرون بها، أدّى إلى تضاؤل مستواهم الدراسي، وبالتالي اللجوء إلى الدروس الخصوصية، «فهذا لا يعني تقصير المدرسين في تدريس الطلبة، بل محاولة أهالي الطلبة للوصول إلى الحالة المثالية النادرة حالياً».



قصص حبّ في صحاري الموت

بالتأكيد، تكون الصحراء مسرورة لو نبتت فيها زهرة. وبالتأكيد أيضاً فإنّ «زهرة الحب» تبقى لها ميزاتها الجمالية والعطرية والمعنوية في حياة العراقيّين، الذين يولَد الكثيرون منهم شعراء بالفطرة، وعشّاقاً بالفطرة...
وفي زحمة الموت والخراب، يبقى الحب هو الحب، الذي ليس هناك كلمة مرادفة له. فحسب أستاذ علم الاجتماع سمير الشيخ، فإنّ «العراقيّين شعب منفتح ومتفتّح، وللحياة عنده قيمة كبيرة، رغم كل الصعوبات التي يواجهها، وليس من السهل ترويض طبيعته السهلة بالتعقيدات التي طرأت في السنوات الأخيرة وتغيير فطرته المتوارثة عبر قرون».
وقد عُرفَت كل أنحاء العراق، بأنّها أفياء للعاشقين والمحبّين، وأنّها «منتدى الغناء» الذي يزخر بالعواطف الجيّاشة.
ويقول الشيخ «قد تكون الظروف أخلّت ببعض التوازن، ولكن عموم العراقيين، وبالأخص الشباب المثقف، والشابات المثقفات، يرفضون النمط الذي يُراد إدخاله إلى حياتهم. وما زال الزواج من أجل الزواج فقط، ومن دون تعارف مسبّق، من الأمور غير المقنعة. فقبل سنوات، كان للشاب الجامعي أو الموظّف، متّسع من الخيارات، وكذلك الشابات، ولم تكن اللقاءات خارج مجال العمل تمثّل إحراجاً كبيراً، وخاصة مع كثرة المتنزهات والكازينوات والنوادي والجمعيات والاتحادات المختلطة».
وتتساءل شذى سلمان، وهي طالبة جامعية، «من قال إنّ الحب حرام؟ أحلى الصباحات عندي عندما كنت أستيقظ على صوت فيروز، الذي يبثّه جهاز التسجيل عند جاري. أعرف أنه يقصدني من خلال أغانيها عن الجار والضيعة، وفايق يا هوى... نحن نعرف بعضنا منذ كنا صغيرين، ولا شك عندي أنّنا كنّا نحبّ بعضنا بعضاً منذ ذلك الحين، وكنت أردّ عليه بأغنيات مناسبة، إلى أن أخذنا نتبادل الشرائط، وهكذا، تبلور الحب عندنا، وننتظر الآن أن تتحسّن الظروف إلى حدّ ما ليتقدم لخطبتي».
وعن موقف عائلتها من هذه العلاقة، تقول «أمّي تعرف، ولها ثقة كاملة بي وبحسن اختياري، وأعتقد أنها أعطت إشارات ما إلى والدي، الذي يغضّ الطرف، فهما تزوّجا نتيجة علاقة حب، لذا لا يمكن أن يقفا ضدّ مشاعري وأحاسيسي، وخاصة أنني طالبة جامعيّة، وبالتالي يمكن أن أقيم أيّ علاقة من دون علمهما».
ولعلّ آفاق الحبّ في الريف أكثر اتساعاً، على الرغم ممّا يُقال عن ضغط التقاليد. فها هي الصبيّة العاشقة تسأل والدتها، وتستحلفها بفروضها الدينية و«صومها وصلاتها»، كم فتى أُعجبت به وأرادته عندما كانت في مثل عمرها. إنّه الحب الفطري الذي تعرف أنّ أمّها سبقتها إليه. ولكن الشاب علي حسن الصراف، يشكو من «ظروف الحب» هذه الأيّام، ويقول: «الفتاة التي أحبّها حالت الأوضاع القاسية التي نمرّ بها دون استمرارها بالعمل في وظيفتها، وانتقلت مع أهلها إلى منطقة أخرى بسبب التهجير الطائفي، لذا لا مجال أمامنا للقاء، ولا سيّما أنّ هناك من يفتون بحرمة تنزّه شاب مع شابة في مكان عام، وحتى سيرهما في الشارع، وبقيت وسيلة الاتصال الوحيدة بيننا هي الإنترنت، ونحن نلتقي دائماً، ونسهر معاً متى توافرت الكهرباء». ويرى أنّ «أغلب الشباب ممن يحبون، يجدون أنّ الإنترنت هو الوسيلة الأفضل للتواصل، ولولاه لكنّا قد تهنا في صحارى التزمّت التي تريد أن تغلق القلوب، بعدما أغلقت المناطق، وعزلت بعضها عن بعض».
وعن لقاءات الإنترنت، ترى المدرّسة فردوس الصائغ أنّ «الإنترنت كان متوافراً بشكل محدود في العهد السابق، ولم تكن لنا تلك الحاجة الماسّة إليه، أمّا الآن، فهو جزء من حياتنا، ولا يمكننا الاستغناء عنه».
وقبل أن تعلن عن حبّها، تلكّأت فردوس بشيء من الخجل، وقالت «أرتبط منذ سنوات بعلاقة مع شاب مهندس، وقد سافر إلى الخارج للعمل والنجاة، كان يريد التقدم لخطبتي قبل السفر، إلا أنني أقنعته بالتأنّي حتّى يكوّن نفسه في الغربة، ثم نرتّب بعد ذلك موضوع الخطبة والزواج». وإلى حين تفرج الأوضاع، يبقى الإنترنت أيضاً وسيلة الاتصال اليومي بين فردوس وعشيقها.
ويبقى الثنائي شجن نوري وباسل عبد الحق مثالاً لمقاومة الظروف الصعبة. فقد التقيا وتحابّا منذ عامين، في أوج اشتعال الحرب الطائفية، عندما كان باسل هارباً يحاول النجاة من بعض الذين يطاردونه، ففتح له والدها باب بيته، وأنقذه، وآواه، إلى أن زال الخطر... فهما من طائفتين مختلفتين!
وتقول شجن «شاءت الصدفة أن نلتقي بعد هذه الحادثة، وربما لم تكن صدفة، لأنه عرف أين أعمل، وتكرّرت لقاءاتنا قرب مكان عملي، ثم أخذ يصعد معي في السيارة نفسها إلى منطقة آمنة قبل منطقتنا، ثم صارحني بحبّه لي». وتضيف «في البداية تردّدت، مع أنّ قلبي كان يخفق بشدّة عندما أخرج من العمل، وأتوقّع أن أراه أمامي، وسبب تردّدي هو اعتقادي بأنّه يردّ الجميل لأننا أنقذناه، ولكنني وجدت لديه التصميم والصدق في حبه لي، وأنا أيضاً أبادله المشاعر نفسها... فالحبّ لم يكن في يوم من الأيّام طائفياً، أليس كذلك؟».


حملة «أخلاقيّة» وشيكة النائب عن «الائتلاف العراقي الموحد»، حسن السنيد، أطلق شرارة هذه المعركة المقبلة. فقد قال الأسبوع الماضي، إنّ محالّ بيع الخمور والحانات التي فتحت في البصرة علناً، وكذلك بثّ الأغاني بصوت عالٍ من أجهزة التسجيل في بعض المتاجر، أمور تتنافى مع الدستور تماماً، وعلى الدولة ملاحقة من يقوم بهذه الأعمال. وعزا دعوته إلى أنّ «الائتلاف» متمسّك بـ«الثوابت الإسلامية» للدولة العراقيّة، ويعارض أي صيغ تتعارض وهذه الثوابت، ولا يقبل «بأي قوانين أو تشريعات تمس الحالات الإسلامية العامة وثوابتها».
وينص الدستور العراقي على أنّ الدين الإسلامي مصدر للتشريع، وفي الوقت نفسه على وجوب عدم إصدار تشريعات تمس حقوق الإنسان والحريات الشخصية. ولا قوانين تمنع هذه الحالات (الخمر والموسيقى)، وتسري عليها القوانين المقرة سابقاً، التي لا تُلغى دستورياً إلا بتشريعات جديدة، ولكنّها حجّمت في السنوات الأخيرة، بقوة السلاح، من الميليشيات.
وينص القانون، المعمول به منذ العهد الملكي، على منع بيع المشروبات الكحولية وتناولها قرب الجوامع والمساجد فقط، وبمسافة لا تقل عن مئة متر، بينما أقرّت عقوبة الإعدام بحق المتاجرين بالمخدرات في العهد السابق، والسجن مدة طويلة للمتعاطين، وهذا التشريع لم يُغَيَّر رسمياً، إلا أنّ هناك من يغضّ الطرف في شأن المخدرات، بحجة عدم تحريمها بنصّ ديني صريح. ولم يشر السنيد إلى وجود قوانين جديدة تحدد ما هو مسموح به، وما هو مخالف، أو ما هي المادة القانونية التي يستند إليها لتطبق في البصرة، بينما أقرت الجهات الرسمية في بغداد ضرورة الحصول على موافقة رسمية، لفتح محال تناول الخمور وبيعها، ما يعني عدم وجود قوانين أو قرارات تمنع ذلك.
ومن جانبه، طالب المرجع الديني الشيخ قاسم الطائي، رئيس الوزراء نوري المالكي بتوجيه أجهزة الأمن «لمعالجة ظاهرة انتشار محالّ الخمور والملاهي في البصرة»، بعد العمليات العسكرية التي جرت في المحافظة.
وقال، في رسالة إلى المالكي، إن «رئيس الحكومة مطالب بذلك مرتين، مرة لكونه مسؤولاً وصائناً للدستور، وأخرى بصفته إسلامياً، بل ومتديناً، فتتضاعف مسؤوليته أمام الله والتاريخ». وأشار إلى أنّ الدستور واضح، وفي بعض فقراته تحريم لأي قانون يتعارض مع الثوابت الشرعية، لذلك فالخمر محرم. وتابع: «كنا بانتظار نتائج إيجابية، ولكننا فوجئنا بفتح محالّ الخمور والمنكرات والملاهي وبيع سافر للمحرمات في الشوارع، وعدم احترام الثوابت الإسلامية، من رفع صوت مسجلات السيارات بالأغاني الفاضحة، وهذا ما لا يمكن قبوله في مجتمعنا». وكانت السيارات الحكومية، وخاصة سيارات الشرطة، تستخدم ردّات اللطميات (رثائيّات تُبَثّ خلال مناسبات عاشوراء)، بصوت عال، مكان أجهزة التنبيه، إلا أنها منعت في الآونة الأخيرة من ذلك، وطلب منها الاستعاضة عنها ببث النشيد الوطني فقط.