strong>لم تعد زراعة الأفيون في أفغانستان مجرّد تجارة غير مشروعة. باتت أسلوب حياة لفئة كبيرة من الشعب الأفغاني، تدخل في تفاصيل عيشهم اليومي، كما دخلت في تغذية حركات التمرّد على مر العقود الماضية في هذا البلد. ومن هنا تأتي صعوبة إجراءات كابول، إذا كانت صادقة، للحد من هذه الظاهرة، بناءً على رغبات دوليّة
عائلات تبيع بناتها لسد قروض زراعة الخشخاش... والحكومة تحارب صغار المزارعين وتتجاهل الأباطرة

مي الصايغ
في بلد ينتج أكثر من 93 في المئة من أفيون العالم، فشلت السلطات الأفغانية في القضاء على هذه الزراعة، التي توفّر دخلاً لمئات الآلاف من العائلات، كما لم يسلم أطفالها ونساؤها ورجالها من السقوط في براثن الإدمان على المخدرات، فيما أضحت فتياتها قرابين على مذابح قروض الأفيون.
ونشرت صحيفة «نيوزويك» الأميركية في آذار الماضي تحقيقاً عن «عرائس الأفيون» في أفغانستان، اللواتي أصبحن ظاهرة متفشية في المجتمع الأفغاني، رغم معارضة الإثنية الباشتونية، التي تمثّل غالبية السكان، لهذا الزواج الذي «يلطّخ شرف الفتاة وعائلتها».
وقد صعقت معدّة التحقيق، أنكليزا أفريدي، من الحالات التي استعرضتها، إذ وجدت أن نحو نصف العرائس في أفغانستان جرى تزويجهن إيفاءً لقروض الأفيون. وبين الحالات التي تطرقت إليها، حالة خالدة، الفتاة التي لم يتجاوز عمرها 10 سنوات. فوالد خالدة أمضى حياته في زراعة الأفيون في المناطق الشرقية والجنوبية. وكان قد اقترض مبلغ 2000 دولار من مهرّب على أمل تسديده بعيد موسم الحصاد. لكن لسوء حظه، قامت الحكومة الأفغانية بتدمير محصول الأفيون قبل الحصاد، فعجز عن إيفاء دينه وهرب مع عائلته، إلى أن وجدهما الدائن وطالب بأمواله. فما كان من الوالد إلا أن عرض قضيته أمام المجلس القبلي في ولاية لغمان. فجاء قرار المجلس أن يقوم بتعويض الدائن عبر تزويج ابنته خالدة للمهرّب. ورغم توق الفتاة إلى أن تصبح معلمة، باتت اليوم مستسلمة لواقعها، وتقول بمرارة «هذا قدري».
في بعض الأحيان، تعمل الفتيات في منازل أزواجهن كخادمات إلى أن يبلغن ويصبحن جاهزات للزواج، ما دفع العديد منهن إلى الانتحار هرباً من واقعهن الأليم وابتلاع السم في ليلة زواجهن، فيما يرفض البعض الآخر الانتحار ما دام الدين الإسلامي يحرمه.
وأمام واقع تعلّق صغار المزارعين بالعشبة المحرّمة، تتجه السياسات الأفغانية إلى معاقبتهم، متجاهلةً أباطرة هذه التجارة. ووفق مكتب الأمم المتحدة بشأن المخدرات والجريمة، هناك 5 آلاف عائلة أفغانية تعتمد في مصدر عيشها على زراعة الأفيون التي تتركز على وجه الخصوص في ولايتي هلمند ونيمروز. لكن الأرباح الكبرى تذهب إلى المهرّبين، وحلفاء «طالبان» والمسؤولين المتعاونين معهم.
الفشل في القضاء على المخدرات، تزامن مع العجز عن توفير برامج استرزاق بديلة مستدامة، وسط غياب حوافز للمزارعين الفقراء، الذين يمثّلون نحو 10 في المئة من إجمالي السكان الأفغان. فعوائد محصول الأفيون تضاهي 10 مرات أرباح محاصيل كالقمح والذرة، كما أن للأفيون خصوصية، لكونه يتلاءم مع كل المتغيّرات المناخية.
ويقول كاشكول خان، ربّ إحدى العائلات، إنه «بالكاد يحصل على دولارين في اليوم من زراعة البطاطا والبندورة والقمح، حيث لا يكفي ذلك لسد رمق عائلة لشهر واحد، ولا سيما أن عائلته تتكون من 7 أفراد». وسبق أن باع خان ابنته لإيفاء مبلغ 700 دولار أميركي، وهو يعرب عن ندمه على فعلته «لأن طموح كل فتاة أن تتزوج بكرامة، وألا تعامل معاملة الخادمات». والأسوأ الذي قد ينتظر خان أن تلقى ابنتاه المصير نفسه عندما يبلغن العاشرة.
بيد أن مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في أفغانستان، لورين سوتدارد، أشار إلى أن برامج الزراعات البديلة بدأت تظهر نتائجها. فنحو 40 عائلة في نانغاهار، تحصل على نوع من التعويض جرّّّاء خسارة عائدات الأفيون. كما تقوم «يو أس آيد» بتمويل زراعة ثلاثة ملايين من الأشجار المثمرة في الولاية منذ عام 2006.
وأشار تقرير للبنك الدولي إلى أن العالم يحتاج إلى استثمار أكثر من ملياري دولار أميركي في أعمال الري والطرقات وتنمية الأرياف في أفغانستان لتشجيع المزارعين الأفغان على ترك زراعة الأفيون المزدهرة. وكشف عن أن محاربة تجارة المخدرات ممكنة إذا كان لدى المزارعين الفقراء وسائل أخرى لكسب الرزق.
وقد أثبتت التجارب أن سياسة مكافحة المخدرات لن تدوم، ولن تؤدي إلى خفض إنتاج الأفيون ما لم يسود الأمن والاستقرار في هذا البلد. ويرى المدير التنفيذي لمكتب المخدرات والجريمة في المنظمة الدولية، أنطونيو ماريا كوستا، أن «الأفيون بات سرطاناً يسري في جسد أفغانستان». وأشار إلى أن الإنتاج تزايد في ولايات تضعف فيها سيطرة الحكومة، حيث تفرض «طالبان» ضريبة على المزارعين وتحمي قوافل التهريب إلى دول الجوار.
ويمثّل الأفيون هروباً للأفغان من شظف العيش. ويقول محمد بشير (24 عاماً)، وهو مدمن هيرويين منذ ما يزيد على سبع سنوات، «كنت خيّاطاً ماهراً، وكنت أكد في العمل. ومن أجل تخفيف إرهاق العمل، كنت أدخّن الأفيون أو أمضغه كمسكّن للألم يومياً». ويضيف: «أنفق على الهيرويين أربعة دولارات. عليّ أن أحصل عليه بأي وسيلة. إذا لم أحصل على المال أعاني ألماً شديداً في كل جسمي».
كذلك فإن بعض النساء المدمنات لا يتورّعن عن جر أطفالهن إلى الإدمان نتيجة افتقارهن إلى الوعي بأضرار المخدرات. وفي هذا الإطار، يوضح الموظف في وزارة محاربة المخدرات في مقاطعة بالخ الشمالية، لطف الله لطفي، أن «النساء اللواتي يقمن بأشغال منزلية، يعطين أطفالهن الأفيون ليخلدوا إلى النوم حتى يتمكنّ من إنهاء أشغالهن من دون أي إزعاج».
كما تفتقر النساء المدمنات إلى فرص الحصول على العلاج وإعادة التأهيل مقارنة بالرجال، إذ لا يسمح العديد من الأفغان لنسائهم بالحصول على العلاج خارج منازلهن بسبب العادات والتقاليد.
تجارب للإسقاطأما تايلند، فتمثّل المثال الحي على خيارات كسب الرزق البديلة؛ خلال الستينيات، عندما كانت حركات التمرد تحارب الحكومة القائمة، سقطت زراعة الأفيون في أيدي المتمردين. ولم تنجح الحكومة في القضاء على هذه الزراعة، إلا بعد هزيمتهم، وتمكّنها من فرض الأمن والاستقرار، وتوفير تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، وخلق وسائل بديلة للعيش لفترة على امتداد 15 سنة.
وتبقى تركيا النموذج الأبرز لترخيص زراعة الأفيون لاستخدامات طبية. إذ نجحت في حقبة السبعينيات في إنهاء حظر زراعة الأفيون. نجاح مردّه إلى توافر الأسواق الخارجية لهذه الأدوية، ومساندة الولايات المتحدة، وبسط الحكومة التركية سيطرتها على كامل أراضيها.
ودعت منظمة «سينسيل كاونسيل» الاستشارية لشؤون المخدرات في أفغانستان إلى مطالبة الغرب بشراء محاصيل الأفيون الأفغاني، واستخدامه في عقاقير تخفيف الآلام بدلاً من تدميره. وتساءلت: «كيف يمكن للمرء أن يأمل تحقيق الاستقرار لأفغانستان من جديد ونيل دعم المزارعين، عبر تدمير المحاصيل التي تمد عائلاتهم بالرزق؟».
ومن خلال هذه النماذج، تقع على عاتق قوة «إيساف» هزيمة «طالبان» وإحلال الاستقرار والأمن، اللذين يمثّلان المدخل الأساس للنجاح في القضاء على آفة الخشخاش. وكسب عقول الأفغان وقلوبهم هو بمثابة جزء من المعركة.
ويبقى على الحكومة الأفغانية بسط الأمن، والمزج بين وسائل الترغيب والترهيب لإغراء الأفغان وإقناعهم بالتعاون في مكافحة المخدرات، لانتشال المجتمع الأفغاني من واقعه المزري.


الاحتلال ضاعف الإنتاجويُلاحظ أنّ زراعة الأفيون تضاعفت مع مجيء الاحتلال الأميركي. فقد أصدر أمير حركة «طالبان»، الملا محمد عمر، عام 1999، قراراً بحظر زراعة الأفيون، وهو ما أدّى إلى انخفاض إنتاج أفغانستان من هذه المادة، حيث تراجع بنسبة 28 في المئة عام 2000 (3.572 أطنان مقارنة مع عام 1999 عندما بلغ الإنتاج 4.185 أطنان)، كما تراجعت نسبة الأراضي المزروعة بالأفيون إلى نحو 82 ألف هكتار، وهي تقل بنسبة 10 في المئة عن المساحة المسجّلة عام 1999.