strong>لا يصنِّف فرناندو لوغو، الذي أدّى دور الوسيط بين تيارات متنازعة من الباراغواي، نفسه يسارياً... لكنه يشرح مطوّلاً عن المسيحية والتقدمية والاشتراكية. قبل ستة أشهر، قال في مقابلة سئل خلالها عن حظوظه: «بعد العسكري هوغو تشافيز والعامل لويس إينغاسيو دا سيلفا لولا والهندي إيفو موراليس، لم يعد ينقص إلا رجل الدين»
بول الأشقر
تبدأ قصة فرناندو لوغو، الذي فاز أمس برئاسة الباراغواي، عام 1951 في قرية سان سولانو المعزولة. الطفل الأصغر من عائلة متواضعة من خمسة أشقّاء وشقيقة، ستصبح الآن السيّدة الأولى في الباراغواي. في ذلك العام، قرر الأب نقل العائلة إلى مدينة إنكارناسيون، لكي يتابع الأولاد دروسهم.
وفي شوارع المدينة، كان الطفل فرناندو يبيع نوعاً من المعجّنات والقهوة للمارة في فترات العطلة لتحسين الدخل العائلي. والعائلة غير متدينة، إذ يقول لوغو «لم أر أبي في الكنيسة ولا مرة واحدة طوال عمري!»، وإنما تنتمي إلى تيار انشقّ من حزب «كولورادو» لأنه يعترض على دكتاتورية الرئيس الفريدو ستروسنير. عام 1960، اعتقل ثلاثة من أشقائه وتم تعذيبهم قبل أن يطردوا من البلد. ولم يرَهُم فرناندو ثانية إلا بعد مرور 23 سنة.
بعيداً عن أجواء السياسة، كبر فرناندو تلميذاً مثابراً وصار يدرّس الأطفال في ضاحية المدينة المهمشة لتحسين الدخل العائلي. وفي هذا الوسط المتديّن، كان الشاب يقوم إلى جانب دور المعلم بدور الكاهن الذي لم يكن يطلّ إلا كل ثلاثة أشهر. ينسب فرناندو نزعته الدينية إلى تلك الحقبة. وبالرغم من اعتراض أبيه، الذي كان يحلم به محامياً، دخل فرناندو إلى كلية اللاهوت بعمر 19 سنة ورسم كاهناً عام 1977. سافر كمبشر إلى الإكوادور حيث مكت خمس سنوات وتعرّف إلى «لاهوت التحرير» أو «الخيار الأفضلي لمصلحة الفقراء»، وهو اسم آخر لهذه العقيدة المسيحية التي نمت في أميركا اللاتينية أمام تحديات البؤس والظلم.
جرى الاجتماع التأسيسي لهذه العقيدة الكاثوليكية التقدمية عام 1978 في بويبلا الإكوادورية. وبحسب فرناندو لوغو، فإن سنوات الإكوادور هي التي حسمت عنده مضمون رسالته الكنسية كـ«خادم اجتماعي».
بعد أقل من سنة على عودته إلى الباراغواي، طرد فرناندو منها بعدما طافت من خطبه الدينية «لهجة معادية لستروسنير»، وأرسلته الكنيسة إلى روما. بقي في الفاتيكان خمس سنوات حتى مرور العاصفة وعاد إلى العاصمة أسونسيون، حيث عمل مستشاراً لمجمع الأساقفة.
عام 1994، عيّن أسقفاً على مقاطعة سان بيدرو، أفقر مقاطعة في الباراغواي ومركز أكثرية الصراعات على الأرض. خلال عقد من الزمن، ساهم في تنظيم الفقراء وتوعيتهم، ووصل تدريجاً إلى قناعة مؤلمة عن «محدودية العمل الكنسي والرعوي في إنتاج تغييرات بنيوية اقتصادية واجتماعية». في نهاية عام 2005، اجتمع مع مجموعة صغيرة للبحث في سبل خرق الحلقة المفرغة الباراغوانية. هي النواة التي أسست بعد سنة حركة «تيكوخوخا»، التي تعني بلغة الغوارني «العيش المتساوي». بعد سنة من البحث والتدقيق، سلمه رفاقه عريضة شعبية من مئة ألف مواطن يطالبونه بالترشح لرئاسة الجمهورية.
تصدّر تظاهرة حاشدة ضد تعديل الدستور للسماح بالتجديد للرئيس نيكادور دوارتي. يوم عيد الميلاد سنة 2006، استقال فرناندو لوغو من المطرانية وقرر دخول المعترك السياسي، «الوسيلة الأنجع للتغيير»، لأن الدستور يمنع رجال الدين من تبوء مراكز انتخابية.
أثارت الخطوة احتجاجات الطبقة السياسية التقليدية، وخصوصاً أن الفاتيكان تسرّع بتجميد فرناندو ورفض مبدأ الاستقالة لأسباب لاهوتية لها علاقة بطبيعة «التوكيل الإلهي». أيام قليلة قبل الاقتراع، ذكّرت الكنيسة في الباراغواي في محاولة لإرباكه، بأن فرناندو لوغو لا يزال مطراناً. أما الموانع السياسية، وبالرغم من التهديدات بالطعن التي لم تتوقف، فقد انهارت تلقائياً مع إعلان النتائج وبقي الفاتيكان مع ورطته اللاهوتية.
طويل القامة، هادئ ومثابر معاً، لفّ فرناندو لوغو الباراغواي مرتين، خلال السنة الأخيرة، للاستماع إلى الناس في المرة الأولى ولجمع اقتراحاتهم في المرة الثانية. إنه يتقن الاستماع أكثر من الخطابة. مصان بدعم النقابات الفلاحية وبرصيده الوطني، فتح مفاوضات مع المعارضة التقليدية. واصطدم بآمال الجنرال لينو أوفييدو في الحصول على عفو وبطموحات بيدرو فضول، فقرر التحالف مع الحزب الليبرالي، ثاني أكبر حزب تقليدي. هكذا نشأ قبل ثمانية أشهر «الائتلاف الوطني للتغيير»، وأدى دور الوسيط بين ثلاثين حزباً وحركة، بينهم انشقاق عن حزب الكولورادو.
في خطابه الأول، بعد إعلان النتائج، دعا «البايي»، أي الأب، كل الأحزاب وجميع المواطنين إلى العمل معاً وإلى «الرهان مجدداً على الوطن». ووعد بتلبية مطالب الثلاثمئة عائلة من دون أرض في بلدنا. ووعد بـ«تغيير صورة الباراغواي لئلّا يعرف بعد اليوم ببلد الفساد بل ببلد النزاهة». والتزم القضاء على الزبائنية والنهب في الدولة، مطمئناً الموظفين من حزب كولورادو ـــــ وهم الأكثرية العريضة ـــــ بأنه «لن يحصل أي تطهير على أن المقياس الوحيد سيكون الكفاءة». وأكد أن الباراغواي «عادت الآن بعد غياب طويل إلى خريطة أميركا الجنوبية والعالم».