«جوار العراق»: تكرار لدعوات قديمة إلى ضبط الحدود وشطب الديون وعودة التمثيل الدبلوماسي سعاد مكرم
قدّم جميع من شارك في اجتماعات ثالث مؤتمر لوزراء خارجيّة العراق في الكويت أمس، التي استمرت يوماً واحداً فقط، خلافاً لما حصل في الاجتماعين السابقين في شرم الشيخ وإسطنبول، مشهداً فريداً في العلاقات الدوليّة، سمته الأبرز كانت التناقض الكبير بين أبرز الكلمات التي أُلقيَت من جهة، وروح البيان الختامي.
قبل انعقاد المؤتمر، كانت الأجواء توحي بأنّ اللقاء الموسّع سيتّسم بالبرودة. السبب أنّه كان معروفاً سلفاً أنّ وزيرة الخارجيّة الأميركيّة كوندوليزا رايس لن تلتقي مع نظيريها الإيراني منوشهر متّكي والسوري وليد المعلّم على غرار ما حصل في شرم الشيخ وإسطنبول. غير أنّ البرودة عوّضتها حماوة الكلمات التي ألقاها وزير الخارجيّة السعودي سعود الفيصل من جهة، ورئيس الحكومة العراقيّة نوري المالكي من جهة ثانية.
المجتمعون انقسموا إلى 4 «معسكرات»: الأوّل مثّله الفيصل الذي بدا كأنه تحدّث نيابة عن زملائه ممثّلي الدول العربيّة (ما عدا سوريا طبعاً). كلام الفيصل حمل في طيّاته انتقادات لـ«دور خارجي» يغذّي الميليشيات العراقيّة ويعمل على تغيير الهويّة العربية للعراق، في إشارة واضحة إلى إيران. ورغم أنّ الفيصل ومتّكي اجتمعا على هامش المؤتمر قبل ظهر أمس، إلا أنّ مفاعيل اللقاء الثنائي لم تنعكس على كلمة الوزير السعودي.
المعسكر الثاني جسّده المالكي الذي وجّه انتقادات مباشرة إلى الدول العربيّة في الإشكاليات الثلاث التي هيمنت على المؤتمر: إلغاء ديونها المستحقّة على العراق منذ عهد نظام صدام حسين، وعدم إعادة تمثيلها الدبلوماسي مع بغداد، وعدم بذلها جهوداً كافية لإقفال حدودها في وجه «الإرهابيّين».
أمّا الطرف الثالث، فاضطرّت رايس إلى تأديته في دور إطفائي يسعى لتلطيف كلّ كلام حادّ في المؤتمر، ونشر روح إيجابيّة غابت عن الكلمات.
أمّا المعسكر الرابع، الإيراني ــ السوري، فكان الضغط عليه طفيفاً في ما يختصّ بالشأن العراقي. كل من متّكي والمعلّم شعرا بأنهما «غير معنيّين» بطلبات حكومة بغداد: فطهران ودمشق تجمعهما مع حكومة المالكي أفضل العلاقات الدبلوماسيّة. ورغم أنّ دمشق لم تفتح سفارتها في بغداد حتّى اليوم، إلا أنّ الزيارات والاتصالات قائمة بين العاصمتين على أعلى مستوى.
الكلام نفسه ينطبق على الجمهوريّة الإسلاميّة، لا بل إنّ الأخيرة كانت سبّاقة في إعادة سفارتها إلى المنطقة الخضراء، كما أنّ رئيسها محمود أحمدي نجاد صال وجال في شوارع بغداد والتقى جميع مسؤوليها وقدّم الهبات الاقتصاديّة، وهو يعلن دعمه يومياً لحملات المالكي على الميليشات، ومن ضمنها الشيعيّة...
أمّا التناقض، فظهر في البيان الختامي الذي جاء مليئاً بكلّ إيجابيّة لفظيّة: الحكومة العراقيّة دُعمَت بشكل كامل عسكرياً وسياسياً. أجمعت البنود العشرين على دعوة جميع الدول إلى إلغاء ديونها المستحقّة على العراق، كما كانت الدعوة عامّة إلى إعادة افتتاح السفارات في بغداد من ضمن آليّة الاعتراف الكامل بشرعيّة حكومة المالكي.
وأبرز ما انتهى إليه المجتمعون كان الاتفاق على عقد الاجتماع الموسع المقبل في بغداد من دون تحديد زمانه، على أنه «إذا لم تتح الأوضاع الأمنية ذلك فسيعقد في البحرين». كما قُبل عرض السويد استضافة اجتماع دول «وثيقة العهد الدولي» التي سبق وعقدت في شرم الشيخ على هامش المؤتمر الموسع الأول لوزراء الخارجية، وهو عهد خاصّ بسبل معالجة ديون العراق المستحقّة.
وقال المالكي، في كلمته الافتتاحية، إنه كان يتوقع من دول الجوار والمحيط العربي والإقليمي أن تقابل «بإيجابية» جهود حكومته «في ملاحقة العناصر الإرهابية، لكن سياسات التدخل في الشؤون الداخلية استمرت وآثارها واضحة في تأجيج العنف وتغذيته سياسياً وإعلامياً ومالياً وعبر فتاوى التكفير وتدريب الإرهابيين».
وأشار المالكي إلى أنّ «أيدينا لا تزال ممدودة إلى الدول العربيّة لنطلب منها عدم الاستمرار في التحجّج بالأسباب الأمنيّة لتبرير عدم فتح سفاراتها في بغداد». وأعرب عن شعوره بـ«الإحباط» من سلوك الدول العربية إزاء بلاده، فهو لم يعد «قادراً على تفسير لماذا لم يعيدوا بعد تمثيلهم الدبلوماسي، في حين أن دولاً أجنبية احتفظت ببعثاتها الدبلوماسية في بغداد ولم تتذرع بالاعتبارات الأمنية».
كما انتقد المالكي «تردّد» مواقف دول الجوار إزاء العملية السياسية في بلاده، ووصف هذا السلوك بأنّه أعطى «إشارات سلبية» شجعت بعض المعارضين للعملية السياسية على اتخاذ مواقف «أضرت بالأمن والاستقرار في العراق». وفي ما يخص موضوع الديون، شكا المالكي أنّ «التعهدات والالتزامات التي قدمتها الدول العربية لم تدخل حيز التنفيذ، فيما أقدمت دول أجنبيّة على شطب ديونها».
وعن شبح الحرب الذي يخيّم على العلاقات الأميركيّة ــ الإيرانيّة، أعلن المالكي استعداد بلاده «لأداء دور بنّاء يعزز الأمن في المنطقة لتنقية الأجواء ونزع فتيل الأزمات وإبعاد شبح الحروب والنزاعات عن المنطقة».
ونقلت وكالة الأنباء الكويتية «كونا» عن الفيصل كلامه على «معلومات متواترة عن استمرار التدخلات الخارجية المرفوضة في الشأن الداخلي للعراق وتقديم الدعم المالي والعسكري المشبوه لبعض الميليشيات والأحزاب العراقية، في انتهاك فاضح لسيادة العراق والعبث في هويته». وأضاف: «نأمل أن يخرج اجتماعنا بالتأكيد على وقوفنا إلى جانب العراق لصد هذه التدخلات ودرء مخاطرها ليعود العراق آمناً مستقراً ومزدهراً ويتبوأ مكانته الطبيعية في محيطه الخليجي والعربي والإسلامي والدولي».
وأكّد الفيصل أن الرياض «تتعامل مع جميع العراقيين بالمساواة من دون أي تصنيف طائفي أو مذهبي أو عرقي، وترفض كل دعاوى التجزئة والتقسيم». كما أشاد بـ«جدية وصلابة» الحكومة العراقية في مجال التصدي للميليشيات المسلّحة.
وفي السياق، دان الفيصل «الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه دول أجنبية لميليشيات عراقية»، مشيراً إلى «تطورات أمنية إيجابية تشهدها الساحة العراقية». تطوّرات أضاء على جانب سلبي منها وهو «المواجهات المسلحة التي شهدتها البصرة أخيراً وسببت لدينا قلقاً عميقاً وخشية من إمكان عودة الأوضاع الأمنية السلبية على الساحة العراقية إلى سابق عهدها».
لكنه أردف: «لقد استبشرنا خيراً بالتطورات الأمنية الإيجابية التي شهدتها الساحة العراقية، ونتطلع إلى أن يواكب هذا التحسن النسبي في الأمن استكمال تطوير العملية السياسية».
وفيما تحدث المالكي في كلمته عن «تقدم ملموس في تثبيت الأمن في بغداد التي نجحت فيها خطة فرض القانون»، انتقد المعلم التقارير التي تحدثت عن تحسن الوضع الأمني، وقال: «هذا التحسن يبقى مؤقتاً إذا لم يقترن بتحقيق المصالحة الوطنية عبر التوافق الوطني بين كل مكونات الشعب». وذكّر بموقف سوريا الداعي إلى ضرورة مراجعة المواد الخلافية في الدستور العراقي وفي القوانين، وإلى «حل الميليشيات جميعاً، مدخلاً للمصالحة». وحمّل الولايات المتّحدة «المسؤولية القانونية والأخلاقية» عن الوضع الإنساني الصعب الذي يعيشه المهجّرون.
وبينما وافق رئيس الوفد المصري، مساعد وزير الخارجية محمد بدر الدين زايد، على ما قاله الفيصل، شجّع متكي على فتح بعثات دبلوماسية لدول الجوار في بلاد الرافدين «من أجل دعم العملية السياسية».
وتحدّث متكي عن «بزوغ فجر عراق جديد» في ما يتعلق بالعلاقات العراقيّة ـــــ الإيرانية. وجدّد التأكيد على دعم إيران الكامل للبرامج السياسية والأمنية لحكومة المالكي، لكنه اتهم قوات الاحتلال بأنها السبب في استمرار حال الفلتان الأمني وتفعيل الخلافات وتعقيد الأزمات.
وكان رئيس مجلس الوزراء الكويتي الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح قد دعا إلى عدم التدخل في الشؤون العراقية الداخلية وإلى مساندة حكومة بغداد في مكافحة الإرهاب ومنع انتقال الإرهابيين والأسلحة من هذا البلد وإليه.
وجاء البيان الختامي مليئاً بالدعوات من دون اتفاق على أي لجنة متابعة أو جدول زمني أو إجراءات ملموسة في المواضيع الرئيسية الثلاثة التي هيمنت على الأجواء: ضبط الحدود، وشطب الديون أو جدولتها، وعودة العلاقات الدبلوماسيّة كاملة مع حكومة بغداد. وأبرز ما جاء فيه: «دعم جهود الحكومة العراقية في توسيع العملية السياسية وتعزيز الحوار السياسي والمصالحة الوطنية». كما نالت جهود الحكومة الأمنيّة، الدعم المطلق. وجاء في التوصية السادسة «استحسان الجهود الأمنية العراقية في مواجهة وردع تهديدات الجماعات المسلحة التي وقعت أخيراً والترحيب بالتزام الحكومة تفكيك ونزع سلاح كل الميليشيات والجماعات المسلحة».
أمّا التوصية الرقم 13، فنصّت على «دعوة جميع الدول الدائنة الى إطفاء ديون العراق». وعن العودة الدبلوماسيّة، جاء الكلام عامّاً أيضاً من ناحية «تشجيع جميع الدول، ولا سيما دول جوار العراق، وحثها على فتح أو إعادة فتح بعثاتها الدبلوماسية وتعزيز الموجود منها برفع مستوى التمثيل والإسراع في إرسال سفرائها إلى العراق».
ولأنّ الكويت «قبلت» باستضافة المؤتمر، كان لا بدّ من توجيه رسالة شكر إليها، من خلال «إدانة جرائم الحرب التي ارتكبها النظام العراقي السابق في حق المواطنين العراقيين ومواطني الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الكويت، وإدانة قتل أسرى الحرب الكويتيين».
وأمنيّاً، كان لا بدّ من «دعم الجهود المشتركة من أجل منع انتقال الإرهابيين والأسلحة غير المشروعة من العراق وإليه».
غير أنّ المتحدّث باسم الحكومة العراقيّة، علي الدبّاغ، أعرب عن تشاؤمه «حيال التزام الدول الدائنة من ناحية إلغاء ديونها المستحقّة منذ النظام السابق على العراق، لأنّ الكويت لا تزال مصرّة على تعويض ضحاياها الذين قُتلوا أو اعتُقلوا في اجتياح عام 1991، علماً بأنّ السعوديّة تعهّدت في اجتماعي شرم الشيخ وإسطنبول إلغاء ديونها، غير أنها لم تلتزم حتّى اليوم بعهدها».
حدّة لهجة المالكي والدباغ قابلتها دبلوماسيّة هادئة جداً من وزير خارجيّة العراق، هوشيار زيباري، الذي رأى أنّه «يجب أن نكون صبورين مع إخوتنا العرب. أعتقد أنّ النيّة موجودة في شأن إلغاء الديون وعودة التمثيل الدبلوماسي... هكذا تسير السياسة في هذا القسم من العالم».
وبعد انتهاء الجلسة، عزت رايس التلكّؤ بشطب الديون إلى «أنه أمر تقني يحتاج إلى الوقت ليوضع موضع التنفيذ، لكن المهمّ أنّ المسار انطلق». تفاؤل رايس الذي أتى خارج سياق المؤتمر المليء بالاتهامات المبّطنة، أدّى بها إلى اعتبار أنّ اليومين الماضيين كانا ممتازين لأنهما سجّلا عودة العراق إلى بيئته العربيّة، في إشارة إلى مشاركة زيباري أول من أمس في اجتماع المنامة، حيث أُعلن أنّ العراق سيشارك في الاجتماعات الدوريّة لما يُعرَف باجتماعات «الولايات المتّحدة + 6 + 2» (دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن).