أرنست خوريبعد تدمير جدار برلين، ولاحقاً سقوط معظم الأنظمة الشيوعيّة في أوروبا الشرقيّة، تطبيقاً لنبوءة هيلين كارير دانكوس، كلعبة «دومينو» بلورها وآمن بها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، طُرح سؤال بديهي وبريء عن السبب الذي يفرض استمرار وجود منظومة كاملة من المؤسّسات التي أنشأها المعسكر الغربي من ضمن «معركة ربح القلوب والأفكار» في وجه المعسكر الاشتراكي وما يدور في فلكه.
في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام خصوصاً، أُنفِقَت مليارات الدولارات لمواجهة الخطر الشيوعي. كانت موازين القوى تفرض على واشنطن وحلفها الأطلسي إبقاء الخيار العسكري حلّاً أخيراً. لكن الحلول غير العسكرية كان يجب تسييرها بمنطق حربي. على هذا الأساس، ضمّ حلف شمال الأطلسي، الذي تأسس في عام 1949، تحت جناحيه مؤسّسات عديدة جميعها، مهمّتها «حماية الحرية والميراث والحضارة العامة» و«تشجيع الاستقرار والرفاهية وقيم اقتصاد السوق والتعددية الحزبيّة». في ذلك الوقت، لم يكن هناك عدوّ اسمه الإسلام. عدوّ اليوم كان صديق الأمس.
«راديو أوروبا الحرّة»، كان أحد المؤسسات التي قادت حرب «الملوّن» ضدّ «الأبيض والأسود»، وهي ثنائيّة كانت رائجة للتعبير عن «ثقافتي» الليبراليّة والاشتراكيّة، واليوم استُنسِخَت تلك الثنائيّة على شاكلة «ثقافة حياة» و«ثقافة موت» (ليس في لبنان حصراً).
تأسست هذه الإذاعة في حزيران عام 1949 في نيويورك، وخضعت حتّى 1971 إلى تمويل وإدارة وكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركية «سي أي إيه». وللقارئ أن يقدّر نوعيّة مادّة إعلاميّة يبثّها أعتى جهاز استخباري في العالم.
وبعد ذلك العام، انتقلت إدارتها إلى «مؤسسة الإعلام الدولي»، وهي دائرة حكوميّة أميركية، يعيّن رئيس البلاد جميع أعضائها. مسيرة «الإذاعة الحرّة» كانت محكومة بالموت منذ تأسيسها. فمسار العولمة كان يسير بخطى سريعة، وكان لا بدّ من أن ينتهي يوماً ما عصر الإذاعة كوسيلة لانتزاع المعلومة منها، لصالح الفضائيّات والإنترنت.
تركّز نشاط الإذاعة في دول «الطوق السوفياتي» في أوروبا وآسيا وأفريقيا. كان أمر كلّ يوم فيها، فعل كل شيء لإسقاط الاتحاد السوفياتي والانتهاء من الهمّ الشيوعي «ثقافيّاً». ومنذ يومها الأوّل، جاءت الأهداف الرسميّة المعلنة للإذاعة المعولمة التي لا تزال تبثّ بـ28 لغة، على الشكل التالي: «تأمين المعلومات الضرورية للتحوّل الديموقراطي وتحرير الأسواق الاقتصاديّة». وفي المرتبة الثانية «تقوية المجتمعات المدنيّة ووضع قيم الديموقراطيّة الليبرالية فوق كل اعتبار».
شهد تاريخ الإذاعة أحداثاً كبيرة، منها ما عُدّ نجاحاً لها، ومنها الآخر فشلاً ذريعاً. انهيار الاتحاد السوفياتي «سلميّاً»، رأى البعض فيه نتيجة لاتّباع حرب ثقافيّة ـــ إعلاميّة، كانت «أوروبا الحرّة» رمزاً لها. «نجاح» لم يكن كافياً للحؤول دون تخفيض موازنتها السنويّة من 230 مليون دولار إلى 75 مليوناً، «وهو أقل من ثمن مروحيّتي أباتشي» على حدّ تعبير رئيس الإذاعة جيف غيدمن في حديث لـ«واشنطن بوست» في 22 نيسان الجاري.
حدثان آخران أظهرا محدوديّة عمل هذا النوع من الحروب الثقافيّة، هما احتلال أفغانستان والعراق. الإذاعة صبّت تركيزها منذ مطلع الألفيّة الثالثة على تقوية بثّها بالعربيّة والبشتونيّة. ورغم ذلك، انتصر كلام القنابل ولم يدم ترحيب أهالي العراق وأفغانستان بالمحتلّ ـــ المحرّر سوى لأيّام.
الإذاعة اليوم تكاد تُحتَضَر في مقرّها العام في العاصمة التشيكية براغ. يحاول القيّمون عليها إقناع حكّام واشنطن بزيادة الإنفاق عليها، وخصوصاً على فرعها الإيراني «راديو فاردا». لكن الزمن تغيّر، ومع قصر موجات بثّ الإذاعة، فإن صبر مجانين الإدارة الأميركيّة يتقلّص.