محمد بديراستنسب رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، إعلان صحة التقارير السورية بشأن إبدائه الاستعداد للانسحاب من الجولان بالطريقة الدبلوماسية المفضّلة: عدم التعليق، نفياً أو تأكيداً. يؤشر هذا التأكيد السلبي إلى تحوّل لافت في المقاربة الإسرائيلية الرسمية للموضوع السوري: الموقف التقليدي الذي دأب الساسة الإسرائيليون، وفي مقدّمهم أولمرت، على ترداده هو اشتراط تخلّي سوريا عن «حلفها الإرهابي» مع منظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية كمقدمة لقبول التحاور، مجرد التحاور، معها. كان هذا في وقت بدت فيه سوريا أحوج ما تكون إلى مظلة سياسية تقيها شرور تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق.
التقطت إسرائيل ما عدّته إشارة الضعف السوري في حينه، ولم توفّر أسلوباً في إظهار تمنّعها حيال الرغبة السورية في التفاوض، ممارسة الابتزاز بعينه. تماهت تل أبيب مع سياسة واشنطن في المراهنة على سقوط القرار السوري، عاجلاً أو آجلاً، وتوقّع دخول دمشق بيت الطاعة الأميركي من دون الحاجة إلى بذل المهر لها.
جاءت حرب تموز، وبدأت في أعقابها تتكشف، شيئاً فشيئاً، معالم المكانة الاستراتيجية التي أسهمت نتائج الحرب بشكل كبير في إيلائها لسوريا على صعيد ملفات المنطقة، بدءاً بلبنان مروراً بفلسطين وصولاً إلى العراق. تزامن ذلك مع فشل الرهانات الداخلية التي كانت معقودة على قوى 14 آذار في لبنان لمحاصرة سلاح المقاومة، كما مع فشل الخيارات القمعية التي مارسها الاحتلال في مواجهة سلطة «حماس» في غزة. في الموازاة، بدأت إسرائيل تدرك أن الخيار العسكري في مواجهة الانعطافة الكبيرة التي تواجهها في بيئتها الاستراتيجية أصبح مكلفاً جداً، من جهة، وغير مضمون النتائج، من جهة أخرى. بعبارة أخرى، بدأت تدرك أنها فقدت سطوتها المعنوية كرافعة لإحداث التغيير في إرادة العدو الذي أصبح يدرك، بدوره، مدى فاعلية أوراق القوة التي يملكها في مواجهة المأزق الإسرائيلي.
هنا كانت نقطة التحول في الموقف الإسرائيلي من التفاوض مع سوريا. لم يعد فك الارتباط عن «الحلف الإرهابي»، أو «محور التطرف»، شرطاً ابتدائياً للتحاور معها، بل مادة في صلب التفاوض تبدي تل أبيب مسبقاً موافقتها على التنازل عن الجولان ثمناً ابتدائياً لها.
المفارقة أن الصحوة الإسرائيلية للهجوم السلمي باتجاه سوريا تعكس أيضاً تحولاً ما في الموقف الأميركي نفسه. فواشنطن لم تبد حتى الآن أية ردة فعل تؤشر إلى تحفّظها حيال السخونة العائدة إلى مسار دمشق ــ تل أبيب. تتضح ملامح التحول المقصود إذا ما تذكرنا المنطق الإملائي الذي درج الرئيس الأميركي، جورج بوش، على مخاطبة دمشق به: «سوريا تعلم جيداً ماذا يجب عليها أن تفعل». قد يكون مردّ الغياب الأميركي عن المشهد هو علم واشنطن أن الفرص لاستئناف المفاوضات بين الدولتين لن تكون في عهد الإدارة الحالية، أو على الأقل في الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية.
بالنسبة إلى أولمرت، الذي يعي ذلك، يكتسب إحياء الخيار السوري في هذا الوقت أهمية سياسية شخصية، تتزاحم مع الأهمية الاستراتيجية. فهو، أولاً، يحتاج إلى بديل سياسي جاهز يمنحه هامش مناورة في لعبة البقاء في حال وصول المسار الفلسطيني إلى طريق مسدود. وثانياً، هو يعلم أن الخيار السوري يمثّل رافعة انتخابية مهمة وسط شرائح واسعة من الإسرائيليين، وخاصة معسكر اليسار، إذا اضطر للذهاب نحو انتخابات مبكرة. في الواقع، يمكن الافتراض أن أولمرت يخطط فعلاً للذهاب نحو انتخابات مبكرة، وهو يعوم على اتفاقية إطار مع الفلسطينيين من جهة، وعلى مشاهد لطاولة تضم أطقم تفاوض إسرائيلية وسورية من جهة أخرى.
حيال ذلك، يبقى التساؤل عن المآلات التي يمكن أن تصل إليها الأمور إذا استنفدت إسرائيل الورقة السورية، من دون أن تتوصل إلى نتائج مطلوبة؟