strong>الجميع بانتظار النهاية... هذه إحدى خطوات لعبة المعارضة التي خرجت للنظام من منطقة لم يتوقعها. المعارضة باللعب لا بقواعد سياسية أصيبت بالشلل والسكتة الدماغية. اللعب الآن خطر على نظام الرئيس حسني مبارك الى حد أن الحل المتاح أمام أجهزته هو إلغاء الملاعب نفسها
وائل عبد الفتاح

معركة في القصر
لا أحد يعرف الطريق المؤدّية إلى منزل جمال مبارك. لكن الجميع يعتقد أنّه ربما سُمعت أصوات مرتفعة في المنطقة المحيطة بقصر العروبة حيث يقيم الرئيس حسني مبارك وعائلته منذ توليه منصب نائب الرئيس في عام ١٩٧٦. وقتها، لم يكن يطمح إلى أكثر من منصب ملحق عسكري في بلد الأكسلنسات (كما وصف مبارك إنكلترا وهو يحكي عن توقعاته يوم استدعاه الرئيس الراحل أنور السادات للقاء)، أو مدير شركة مصر للطيران (كما كان يتصور مكافأة نهاية الخدمة في القوات الجوية).
هل هناك معركة فعلاً في قصر العروبة؟ الإعلام الرسمي يركز هذه السنة بالذات على عيد تحرير سيناء (٢٥ نيسان). ربما لإنعاش الذاكرة في لحظة بطولة. هي بطولة يراها الكثيرون مصطنعة، فمبارك لم يكن شريكاً في قرار الحرب أو السلام المختلف عليهما حتى الآن. وكان في الحالتين في مواقع تنفيذية.
مبارك يكمل بعد أيام عامه الثمانين، قضى من بينها ٢٧ سنة في موقع الرئاسة. هو آخر سلالة جيل أكتوبر، يستمدّ مشروعيته السياسية من نصر عسكري. وعملية الإلحاح على بطولة استعادة سيناء، هي ردّ على أزمات هزّت نظامه في الأعوام الأخيرة. وهي أيضاً إعلان وجود عن قوة ما زالت هي الفعالة في النظام وتنتمي إلى أكتوبر (الرئيس ومدير الاستخبارات عمر سليمان ووزير الدفاع حسين طنطاوي بشكل أساسي). مبارك قال في كلمته المسجلة أمس بأنّـ«هم» حقّقوا النصر والتحرير... وأنـ«هم» ينتظرون مساعدة الشعب الذي يفهم أنّه يمرّ في أزمة «لم تعد خافية على أحد». هل هو إعلان لتجميع قوى أكتوبر في النظام وتحجيم المجموعة الآتية مع جمال مبارك من مخازن غير مألوفة بالنسبة إلى النظام المصري بعد تموز ١٩٥٢، ومهووسة بمحاذاة الموديل الأميركي؟
جمال مبارك ظهر هذا الأسبوع أيضاً، وفي برنامج تلفزيوني رسمي يقدمه رئيس قطاع الأخبار عبد اللطيف المناوي (تحسبه النميمة السياسية على لجنة السياسات). مبارك الابن ظلّ يدافع عن إصلاحات النظام، لكنه في كل مرة يشير إلى السنوات الثلاث الماضية. وكأن نظام مبارك الأب المستمرّ منذ ربع قرن ويزيد، لم يبدأ إلّا منذ صعد الابن إلى الحياة السياسية. الملاحظة التقطها أيمن نور المعارض الشهير. لكنها بالنسبة إلى مغرمين بالتحليل النفسي، زلّات لسان تكشف عن لا وعي يصدّق أنه «يحكم مصر».
هي إشارة قد تعكس أمنية أو ترسل رسالة إلى من استغلوا أزمة الخبز ليدفعوا بإبعاد جمال ومجموعته خطوات إلى الخلف. الأزمة كشفت عن هشاشة وجود مجموعة قوية بالفعل وأنهم مجرد «حاشية للابن». ميزتهم إلى جانب القرب من ابن الرئيس أنهم رجال أعمال أو قريبون منهم أو يحبونهم. وهذا هو سرّ قوة جمال مبارك إلى جانب حماس قرينة مبارك لتوريث ابنها (وهو خيال آخر يتصوّر أن وصول جمال إلى الرئاسة هو رغبة عائلية).
هل معنى هذا أنّ النظام سينقلب على رجال الأعمال؟ وهل سيقبل رجال الأعمال بدور «الشريك العرفي» في السلطة؟
هذا التصوّر يرى أنّ هناك معركة (ولو صغيرة) بين جناح مؤمن بموديل الدولة القديم والجناح الجديد، حُسمت حينما اهتزّت هيبة الدولة في المحلة الكبرى مرتين: الأولى عندما لم يشعر المحتجون بالخوف من آلة النظام الأمنية، وطاردوا سيارة الشرطة وكسروها باعتبارها رمزاً للدولة. والثانية حين حطم المتظاهرون نصب صورة لمبارك وداسوها.
هناك تصوّر يرى أنّ مبارك ليس من النوع الذي تهمّه الرسائل الرمزية، وأنّ ما يهمّه فقط إشارة وصلت، مفادها أنّ الغضب قد يصل إليه في المرة المقبلة. لكن الرسائل الرمزية تصل إلى «الحرس القديم» وهم الذين حذّروه من مستقبله الشخصي، فالرئيس يحب أن يقضي سنواته الأخيرة متقاعداً باحثاً عن الراحة والتمتّع الهادئ بحصاد السلطة.
الرومانسيّون يتحدثون عن روح أكتوبر التي حرّكت الحرس القديم وجعلتهم يوقفون جماعة جمال مبارك ويعيدون حساسية الدولة لجماهيرها النائمة في رعاية الدولة في مقابل التنازل عن حق الكلام والاختيار.
عربة التحوّل إلى موديل جمال مبارك اندفعت من دون عقل، وهذا ما جعل التحذير يأتي عالي الصوت: ستنقلب السيارة بي وبكم. انتظروا، ستتحقّق آمالكم، لكن على طريقتي وبسرعة أبطأ.
الفارق في السرعة هو ما يفعله مبارك الأب حاليّاً، وهو سيكرّر ما يفعله كلّ مرة. هو الآن يفكّر في طريقة تُضَخُّ بها أموال تمكِّنه من «إسكات» الغضب بالقوة، لتمرّ السنوات المقبلة بهدوء. وهو نفس ما فعله من قبل. فحين وصلت مصر إلى حافة الإفلاس، حسب التقارير الاقتصادية في ١٩٩٠، وقعت معجزة حرب الخليج وقبض نظام مبارك الثمن فوراً واستعاد بعض الانتعاش الوهمي.
مبارك الآن ينتظر معجزة (من هذا النوع أو من نوع جديد)، لكي تعيد التوازن إلى موازنته الاقتصادية العاجزة عن استيعاب احتياجات ملايين من المصريين تلقيهم السياسات الاقتصادية الجديدة في الخطوط الخلفية.
وإلى جانب المعجزة، يتوقع عشّاق السيناريو الرومانسي أن يعود جمال مبارك إلى الظلّ قليلاً، ولو غضبت العائلة داخل القصر ورجال الأعمال خارجه، على اعتبار أنّها «الفرصة الأخيرة» وليحدث ما يحدث، لكن بعد رحيل مبارك الأب الذي يري أنّه يستحقّ مصيراً أفضل من مصير ديكتاتور رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو.

أبيض... أسود... أحمر

حال النظام المصري باتت سيّئة إلى حدّ أنه قرّر خوض حرب ألوان. كذلك استعان بـ«الأخلاق» ليشيطن معارضة الـ«فيس بوك». 4 أيّار موعد جديد مع الشارع، وربمّا مع الدم كما حصل في 6 و7 نيسان. اللون الأسود سيطغى على شباب التغيير، فالكثير منهم لا يقول سوى «بيننا وبينك يا مبارك دم»

ارتدت الشرطة ملابسها البيضاء هذا الأسبوع في موعدها الصيفي المعتاد، وهي ستنتظر بعد أيّام موعداً آخر، هو ٤ أيار، وعلى برنامجه سيرتدي المضربون الملابس السوداء.
التضاد واضح في الألوان بين الأمن والمعارضة في مصر، لكنه ليس كذلك تماماً. فاللون الاسود ليس فقط إعلان احتجاج على النظام السياسي، لكنّه إشارة خطر. فهو فعل سهل مأمون. هل يمكن أن يُعتقل شخص لأنه يرتدي لوناً معيناً؟ إنّها رسالة لا تريدها الأجهزة الامنية أن تصل. فهي رسالة سريعة وقوية، والأجهزة ليست مدربة على التعامل معها. كل المحاولات تنتمي إلى المنع من المنبع. حملة في صحف الحكومة ضدّ العالم الأسود للإنترنت. «الأهرام» نشرتها في الصفحة الأولى محرّضة على الـ«فيس بوك» على اعتبار أنّه «عدوّ الشعب والإسلام وناشر الرذيلة والعري الفاضح». وحرّضت الصحيفة الحكومية أجهزة الأمن على التدخل الفوري وقالت: «صور فاضحة‏،‏ وألفاظ نابية‏،‏ وسب وقذف بلا حسيب ولا رقيب،‏ وأخبار كاذبة،‏ ودعوات تحريض على الفتنة، ‏ومحاولات للوقيعة بين أبناء الشعب الواحد»‏.‏
هذه هي الصورة السوداء لعالم الإنترنت في مصر حالياً للأسف الشديد،‏ التي رسم سوادها قلة من الشباب‏، وإن كان هذا السواد يغطي حالياً على غالبية استخدامات هذه الوسيلة الإعلامية التي يفترض أن تكون أكثر رقياً ونظافة من هذا المستوى إلى الدرجة التي بات الأمر معها يستدعي وقفة من مستخدمي الإنترنت ضدّ هذه الإساءات والانتهاكات الصارخة، قبل المطالبة بتدخّل الجهات الأمنية لإعادة الانضباط إلى هذه المنطقة «الخطرة على المجتمع وأمنه واستقراره وأخلاقياته».
لم تذكر «الأهرام» الإضراب باعتباره قنبلة الـ«فيس بوك» في قلب الحياة السياسية المصرية التي كانت «راكدة» قبل أن يدفع موقع التعارف الشهير آلاف الشباب للدخول في الشأن العام. «الأهرام» ربطت بين فساد الإنترنت واللون الأسود. كما أعادت أجهزة أمنية الحياة لقضية قديمة اتهمت فيها شباب يستمعون لموسيقي «هيفي ميتال» بأنهم من تنظيم ديني يدعو إلى عبادة الشيطان. التحقيقات كشفت قبل ١٢ عاماً أنّ القضية مفبركة، والآن يعاد فتحها من جديد للربط بين غموض الـ«فيس بوك» وغموض الـ«هيفي ميتال». ربما هو اللون الأسود المفضل عند المغرمين بالموسيقي العنيفة. مرة أخرى هي حرب ألوان، ورسائل جديدة على السياسة في مصر. رسائل أخطر من تسريبات عن قرب إصدار قرار بإغلاق موقع «فيس بوك» و«يوتيوب» وهو رعب محتمل جداً. لكنه سيكون إشارة بالغة عن المتاهة التي دخلها نظام مبارك منذ٦ و٧ نيسان. الأجهزة السياسية سرّبت معلومات عن أخبار سارّة في خطاب الرئيس بمناسبة عيد العمال. التسريب كان أكثر تحديداً في بعض الصحف: سيعلن تعديلاً للحدّ الأدنى للأجور الى ٦٠٠ جنيه، أي حوالى ١٢٠ دولاراً. هو إعلان سيمتصّ غضب العمال والموظفين. لكنّه على الأرجح لن يؤثّر في تمرّد الـ«فيس بوك». فهم يتحركون بفعل اليأس الكامل من النظام، حتى أنّهم أعدّوا أغنيات ساخرة تتخيّل موت الرئيس، وتتداول بقوة فكرة عن أنّهم جيل لم يعرفوا في حياتهم رئيساً غير حسني مبارك. يأس عاطفي أو وجودي أكثر مما هو يأس سياسي أو اجتماعي، وهو ما يطرح دائماً أفكاراً مبتكرة على الاحتجاج، مثل توزيع الورود على جنود الأمن المركزي، أو كتابة «لا لمبارك» على الأوراق المالية، أو صناعة لقطات مصوَّرة لخطاب أخير للسادات عن مبارك.
أفكار مبتكرة تنشر مزاج الاحتجاج والغضب من نظام تتّسع الخريطة الاجتماعية لمعارضيه يومياً. والغضب ليس ضدّ مبارك فقط، بل ضدّ الجميع، بل ضدّ كلّ الآباء المقدسين الذين قادوا مصر إلى الخروج من التاريخ، على حدّ تعبير سخرية شاب لم يهتمّ بالسياسة، لكنه يتحدث عن رغبته في أن يعيش في بلد «محترم»، لا بلد تحكمه عصابات ومماليك.
قرّروا اللعب مع النظام. قرار من دون وعي ربما. لكنه قرار بالحركة والدفاع عن النفس. واللعب بمعناه الايجابي أربك النظام الذي ظلّ يتوحش، حتى لم يعد يرى غير نفسه في المرآة.
ربما جيل الـ«فيس بوك» هو الفأر الذي سيهزم الأسد الذي حطّمت أولاً قوته، ثمّ جاء وقت مفاجأة الفأر بقانون لا يعرفه. وربما هو اللعب خارج التواطؤ العام على استمرار الأوضاع، حتى وصلت للكارثة. من هنا الألوان مهمة. وأسود الإضراب يستدعي الأحمر، لون الدم. وبعد سقوط قتيل ثالث من المحلة، اتخذت المواجهات أبعاداً أكثر دراماتيكية، وخاصة عندما ظهر وجه حكومي وقال كلاماً مستفزّاً في برنامج تلفزيوني عن القتيل الأوّل. قال: «راح في داهية» مستهيناً بمشاعر الحزن.
الاستهانة بالدم مسجّلة الآن على المدوّنات: «بيننا وبينك يا مبارك دم». كما جاء على مدونة مراقب مصري تعليقاً على قصة القتيل الثالث في المحلة، الذي كان عائداً من عمله أثناء مطاردات قوات الأمن للمتظاهرين، وفوجئ بالطلقة النارية تخترق رأسه وراح في غيبوبة انتهت بالموت. الأسود والأبيض والأحمر هي بالصدفة، ألوان علم مصر.

«الفاشيّة الحنونة» المشهد كله لافت: إعلان الوزير استجابته، وضجة الإعلام ومباراة في من أوصل صوت عائلة إسراء للوزير لكي يستجيب. مشهد صادم. فالفتاة المثيرة لخيال صنع صورة لبطلة تخرج من بين صفوف الناس العادية لتقول «لا» في وجه الظلم. بنت عادية هذا هو سر فتنتها. ودموعها حركت مشاعر آلاف الأسر. حكايتها غيرت شكل تعامل العائلات المصرية الخائفة من لمس عالم السياسة (مجرد لمس) وتضع على كتاب النصائح للأبناء: السياسة لعنة.
إسراء كسرت الكتاب، وتابع الشبان قصتها من دعوة على «الفيس بوك» إلى المعتقل، ومنها اختطاف حسب قانون الطوارئ وبإرادة وزير الداخلية وحده. كل هذا وإسراء تخرج لتقول إنها لاقت الحنان في المعتقلات. والوزير كاد يحملها بنفسه إلى أمها ومعها ورود وملامح متأثرة بلقاء الأم المتلهفة لابنتها، ليؤكد أن لديه مشاعر شفقة وحنان مع المتمردين الخارجين عن قانون حفظ النظام.
قد تكون إسراء معذورة، وشرط خروجها هو الإعلان عن حنان المعتقلات. فعلت ذلك من أجل أمها أو بضغط من عائلتها. معذورة فهي ليست خبيرة في الشد والجذب مع الحكومة، كما أنها تتحمل وحدها رسائل أجهزة الأمن إلى الشعب المصري.
في البداية، الرسالة كانت إلى جيل الغضب على «الفيس بوك»: سنصل إليك أينما كنت، والبنت العادية ليست بعيدة عن متناولنا.
أما الرسالة الأخيرة فقد كانت أقوى: إن النظام والأمن يتعامل بمنطق الشفقة والعطف مع الشعب، لا بمنطق الحق. النيابة أفرجت عن إسراء.
لكن توسلات العائلة والصحافة ومراعاة للحالة الصحية والاجتماعية هي التي أثرت في وزير الداخلية الذي لم يبرر كيف يستجيب لتوسلات مذيع أو أم، ولا يستجيب لقرار نيابة. هل إسراء خطر على الأمن القومي؟ وهل خرجت من المعتقل لأن قلب الوزير رحيم؟
إنها «الفاشية الحنونة»، كما قال خبير في العلوم السياسية. ورد عليه يساري قديم: «كل الفاشيات حنونة. وجهها الحنون يفسر قسوتها المفرطة... فالقسوة لأنها تعرف أكثر... والحنان لأنها مالكة كل شيء ومثل التمساح يقتل ضحيته وهو يبكي عليها».