إيلي شلهوب«السلام خيار استراتيجي»، عبارة أطلقها الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أوائل تسعينيات القرن الماضي. ورثها عنه ابنه، بشّار، ومعها براغماتية سياسية وأوراق قوة إقليمية وإرث تفاوضي، عنوانه «وديعة رابين»، تسعى إسرائيل اليوم إلى إعادة تحريك عجلته التي توقفت عام 2000. لكن شتّان ما بين اليوم والأمس.
الإعلان الأول عن هذا الخيار لم يأت خارج السياق. كانت الاستعدادات له تجري منذ حرب عام 1973 وخروج مصر من المعادلة العربية. حينها اقتنع الأسد الأب بأن خيار الحرب بات غير ممكن، وبدأ يعدّ العدّة استعداداً لطاولة التفاوض: أقفل جبهة الجولان، وأطلق ورشة إصلاحات وبناء داخلية، وباشر اكتساب أوراق قوة لبنانية وفلسطينية، وتحالف مع الثورة الإسلامية في إيران لتأمين ظهره... مستغلاً الصراع البارد الذي كان يدور بين قطبي النظام العالمي، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق.
حتى جاء انهيار الدب الروسي، وحرب الخليج الثانية التي أوصلت القوات الأميركية إلى منابع النفط العربي. عندها، ارتأت واشنطن، التي بدأت تسعى إلى تعزيز هيمنتها الأحادية على العالم، أن مصلحتها تقتضي إطفاء الصراعات الشرق أوسطية، منعاً لاستغلالها من جانب أي قوة صاعدة لإيجاد موطئ قدم لها في المنطقة (الاتحاد الأوروبي أو الصين أو...): انتهت الحرب الأهلية اللبنانية بسحر ساحر، في صفقة كوفئت دمشق فيها على مشاركتها في «تحرير الكويت»، وعُقد مؤتمر مدريد، الذي أنتج اتفاقات أوسلو ووادي عربة وأطلق المفاوضات على المسارين السوري واللبناني.
جولات تفاوضية، بضغوط ورعاية أميركيتين، أنجزت دمشق خلالها «80 في المئة من الاتفاق»، قبل أن تنهار في قمة الأسد ــــ كلينتون التاريخية، تحت عنوان «تصلّب» الرئيس الراحل، الذي رفض أي تسوية لا تعيد «الجولان كاملاً» حتى حدود الرابع من حزيران عام 1967.
لكن ما كشفت عنه الأعوام التالية من أن رؤساء الحكومات الإسرائيلية الذين تعاقبوا على السلطة خلال هذه الفترة (إسحق رابين وشمعون بيريز وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك) كانوا على استعداد لتلبية هذا الشرط (في نهاية العملية التفاوضية، رغم الأنباء المتضاربة عن خلاف على بضعة أمتار)، تُظهر أن الأسد الأب لم يكن راغباً (أو قادراً) على التوقيع. ورحل، بعد نحو 15 يوماً على تحرير الجنوب اللبناني، من دون أن يفعل. هناك من يقول إنه لم تُعرض عليه الصفقة التي كان يمكن أن يقبل بها: سلام بارد يُُعيد الحقوق ولا يفرض التطبيع، في اتفاق لا يحتاج، على غرار الاتفاقات التي وقّعت مع الفلسطينيين، إلى جولات تفاوضية لتفسير كل بند من بنوده.
تسلّم الأسد الابن مقاليد السلطة في ظل بيئة إقليمية ودولية سرعان ما تغيّرت طبيعتها مع هجمات 11 أيلول وحربي أفغانستان والعراق، وفي ظل إدارة أميركية رعناء حددت هدفها بتغيير معالم الشرق الأوسط تحت شعار «من ليس معنا فهو ضدنا».
اختار الأسد (أو دفعته إلى ذلك «الأوامر» الأميركية: يعرف ماذا عليه أن يفعل) أن يكون «ضدنا»، ومعه إيران وحزب الله و«حماس». عندها لجأ إلى إرث والده في مواجهة الأزمات: الانحناء أمام العاصفة (التي أخرجت الجيش السوري من لبنان) والرهان على عامل الوقت وتعزيز نقاط القوة والتحالفات الإقليمية والدولية (تركيا وروسيا نموذجاً).
تكتيك أثبتت الأيام نجاعته: تحوّل العراق إلى مستنقع أميركي، وغزة إلى «كيان معاد»، وإيران إلى دولة عصيّة، ولبنان إلى «كيان مشلول»، النقطة المفصلية فيه كانت «نصر تموز»، الذي قلب المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، وأعاد إلى الواجهة «خيار الحرب»، التي ثبت في جنوب لبنان أنها لا تزال خياراً صالحاً، حتى مع انقسام العرب إلى «معتدلين» موالين و«متطرفين مارقين».
وضع كهذا أنشأ حالة رادعة في المنطقة ضد أي مغامرة أميركية أو إسرائيلية بشن أي عدوان على أي من أطراف «الرباعي المتطرّف»، من دون أن تلغي إمكان القيام بها، وخاصة مع بدء العد العكسي لولاية الإدارة الأميركية الحالية. من هنا يمكن قراءة المحاولات السابقة لاستدراج سوريا إلى «حلف المعتدلين»، وازدواجية الموقف الإسرائيلي في الدعوة إلى التهدئة معها والإغارة عليها.
لا شك في أن عوامل داخلية إسرائيلية عديدة تقف خلف العرض الأخير الذي قدمته تل أبيب، متسلّحة بعدم ممانعة أميركية، إلى دمشق عبر أنقرة لاستئناف التفاوض، مع الإعلان المسبق عن الاستعداد لإعادة «الجولان كاملاً»، خلافاً لما كانت عليه الحال بداية التسعينيات عندما كانت المفاوضات مطلباً أميركياً بامتياز. عوامل أبرزها ضغوط من جنرالات الجيش وأجهزته الاستخبارية، على قاعدة «تخيّلوا الوضع لو كنا قد وقّعنا اتفاق سلام مع سوريا في العقد الماضي». شعار بدأ يُقنع، على ما يبدو، إيهود باراك وإيهود أولمرت، اللذين يسعيان إلى إيجاد أفق سياسي يحول دون فوز الليكود في أي انتخابات مبكرة.
ولا شك أيضاً في أنه عرض لا يمكن ترجمته عملياً، باعتراف أنقرة وتأكيد دمشق، إلا في العام المقبل، بعد رحيل إدارة بوش، وجهود مضنية، أخذتها تركيا على عاتقها، لبناء الثقة بين الطرفين، مع ما قد تحمله الأشهر المقبلة من «مفاجآت» تطيحه.
ولذلك، يبدو العرض تظهيراً في السياسة لتغيير بدأ يتبلور في القراءة الإسرائيلية للبيئة الاستراتيجية، يتمحور حول محاولة إغراء سوريا بـ«الجولان» لفك ارتباطها مع «جبهة الممانعة»، بما يضمن تحييدها في أي حرب مقبلة، يدرك قادة الدولة العبرية أنها ستكون أكثر كلفة وغير مضمونة النجاح إذا شاركت فيها.
يبدو واضحاً أن الأسد، الذي يسعى إلى إمرار الأشهر المقبلة بالتي هي أحسن، يقرأ جيداً ما بين سطور العرض الإسرائيلي، وهو يخاطب تل أبيب بلغتها نفسها: مستعدون للسلام إذا أردتم، وللحرب إذا أردتم. لكن البراغماتية نفسها، التي ورثها عن أبيه، تجعله يدرك أن ثمن السلام المعروض عليه أكبر مما يستطيع تحمّله: فك الارتباط مع إيران والتخلّي عن حزب الله و«حماس».
صحيح أن استعادة «الجولان كاملاً»، في ما لو حصلت، تمثّل مصلحة قومية ومطلباً سورياً مزمناً وتعطي الأسد شرعية تاريخية تعزز حكمه، لكن المطلوب منه، في مقابل ذلك، تعرية نظامه من جميع أوراق القوة الإقليمية التي حافظت عليه حتى الساعة، وجعلته رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية، تتحالف معه الصين وروسيا وتتقرّب منه أوروبا وتنقسم أميركا في شأن ضرورة محاورته، وتسعى إسرائيل إلى التفاوض معه.
وهكذا يبدو أن ما كان يمكن الأسد الأب أن يقبل به لم يعد صالحاً بالنسبة إلى الأسد الابن. كما يبدو أن السلام بالنسبة إلى سوريا الآن، ومن وجهة نظر براغماتية بحتة، لم يعد خياراً استراتيجياً، إلا إذا جاء في إطار تسوية إقليمية من غزة إلى طهران، تتضمن ترتيبات أمنية للمنطقة وضمانات سياسية وتوزيع مناطق النفوذ.