أرنست خوريأصبح العراقيّون يعرفون بماذا كان محمود أحمدي نجاد ينادي رئيسهم خلال اليومين اللذين أمضاهما في بغداد: «العمّ جلال». سرّ لم يستطع جلال الطالباني أن يخفيه. ونظراً للودّ الفائق الذي استُقبل به الضيف الإيراني، لم يكن مفاجئاً أن يكون قد نادى الرئيس العراقي، بـ«جلال» فقط. لكنّ الفارق في السنّ يفرض على نجاد (52 عاماً) إظهار قدر من اللياقة المحبَّبة ولو من دون كلفة للطالباني (75 عاماً).
سؤال افتراضي أوّل: تصوّروا مثلاً لو أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش، في إحدى زياراته الثلاث التي قام بها سرّاً وليلاً إلى بغداد، طلب من الطالباني أو من نوري المالكي أن يناديه بشيء من قبيل «جورج» أو «جوجو». مستحيل.
الرجل أميركي في الصميم، لديه من الكبرياء ما لا يسمح له بأن يتودّد إليه «كردي» أو مسلم وعربي بشكل عام من خارج إطار «سيّدي الرئيس». يمكن أن يسمح لنيكولا ساركوزي بأن يناديه باسمه، أو حتّى لأنجيلا ميركل أو غوردن براون. فرغم أنّ بوش يضاهي نجاد شعبويّة وطبيعيّة تصل إلى حدّ «الولدنة»، فإنّ علاقة المستعمِر بالمستعمَر قوانينها واضحة منذ أيّام ابن خلدون. بوش يحقّ له أن ينادي الآخرين ويعاملهم كما يشاء، لكن العكس لا يصحّ. المستعمَر يسعى إلى تقليد سيّده. في تسريحة الشعر، في ربطة العنق والمأكل واقتناء البطاقات المصرفيّة والسيّارات الفاخرة... في المقابل، نجاد آت من عالم آخر. هو ابن الثورة، ليس من ناحية الالتزام الديني الأرثوذكسي فحسب، بل في معاداة «الاستكبار» العالمي، الذي تقدّم ربطة العنق أبرز تجلّياته.
سؤال افتراضي ثانٍ: تصوّروا لو أنّ بوش، جرؤ على إعلان نيّته زيارة بغداد قبل شهرين كما فعل نجاد. مستحيل. تخيّلوا لو أنّ سيد البيت الأبيض، وزّع على الإعلام جدول أعماله وأين سيبيت ليلته. أكثر من مستحيل. 168000 جندي أميركي، ونحو نصف مليون جندي عراقي، وعشرات الآلاف من البشمركة والآلاف من مرتزقة شركات الأمن ـــــ الموت الخاصّة، غير كافين لتأمين الرجل وتطمينه.
في المقابل، رجل قصير ونحيف وملتحٍ اسمه نجاد، يجول ليلاً ونهاراً في العاصمة. يدخل «المنطقة الخضراء»، القلعة الأميركيّة، ثمّ يخرج منها ليعود إليها. يتوجّه عند منتصف الليل إلى مرقد الإمام موسى الكاظم. يمكث هناك أكثر من ساعة. يعرف العراقيّون أنه يبيت في منزل الطالباني في منطقة الجادريّة خارج المنطقة الخضراء. ليس المقصد هنا أنّ الإجراءات الأمنيّة لم تكن مشدّدة. كانت أكثر من مشدّدة. لكن بما لا يُقاس مع رحلات بوش. لهذا السلوك إشارات تتعدّى إطار الشكل. إشارات قد تكون أكثر أهميّة من قيمة الزيارة بحدّ ذاتها من ناحية كسر جليد الدم الذي يلفّ العلاقات الإيرانيّة ــــــ العراقيّة. لم يكن العالم ينتظر حتّى يرى نجاد في شوارع بغداد، لكي يكتشف أنّ لإيران نفوذاً هائلاً في بلاد الرافدين. منذ 2003، كانت «المباراة» بين الأميركيّين والإيرانيين تجري لمعرفة من منهما يملك النفوذ الأقوى. الأميركيون اعتقلوا العديد من الإيرانيين الدبلوماسيين في العراق. الإيرانيّون ينفون أي دور في دعم المقاومة العراقيّة، لكن قلّة يصدّقون أنّهم لا يؤدّون دوراً في ذلك. بقيت المبارزة محتدمة إلى أن صال نجاد وجال في عرض بغداد وطولها، كأنّه يسأل العالم والأميركيّين تحديداً: من هو الأقوى في الميدان العراقي: شبح الليل أم ابن النهار؟