سيناريوات كثيرة ارتسمت ولا تزال حول مستقبل الحكم في روسيا، منذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين تبنّيه لديميتري ميدفيديف في الانتخابات الرئاسيّة التي شهدتها البلاد أوّل من أمس، وغالبيّتها يحكمها الغموض. هل يبقى السيّد الحالي للكرملين القائد المطلق يحرّك «دمية» من كواليس رئاسة الوزراء، أم أنّ لتلميذه أهواء سلطويّة بحسابات مختلفة؟حسن شقراني
عدم اليقين في تحديد كيفيّة تبلور معالم السلطة وتفاعل أذرع الحكم في ما بينها يعود إلى مسبّبين بنيويّين يتطوّران تلقائياً مع المسيرة التحديثيّة التي انطلقت مع وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم عام 2000، وليست محدودة، بالحدّ الأدنى حتّى الآن، إلا بمرحلة تنتفي عندها مقوّمات الرضى الشعبي عن الحكم: هبوط أسعار النفط بشكل حاد على سبيل المثال، وعدم قدرة الاقتصاد، المرتكز على صادرات موارد الطاقة الطبيعيّة، على التعافي ومجاراة الطارئ.
* المسبّب الأوّل هو أنّ الكرملين تسيطر عليه نخبة خلفيّتها استخباريّة. ما يعني تحديداً أنّ فئة الـ«إنتلجينسيا» التي انبثق من رحمها الأكاديمي، ديميتري ميدفيديف، ليست أبداً في وارد إعادة خلط أوراق بين صقور وحمائم.
فبنية الحكم، التي يتغلغل في دهاليزها الممتدّة من مضمار السياسة الخارجيّة إلى الأسس المعتمدة في تأميم ممنهج ذي طابع مبتكر (وفي غالبيّة الأحيان تسلّطي: تفكيك الشركة النفطيّة «يوكوس» وسجن رئيسها ميخائيل خودوركوفسكي) للشركات «رفاق بوتين في السلاح» وفي «الدفاع المستتر عن المصالح الوطنيّة»، احتاجت إلى كثير من الصقل لإعادة البلاد إلى السكة الصحيحة بعد عهد رأسماليّة بوريس يلتسين. لذا، من الصعب جدّاً تصوّر كيف يتفاعل رئيس جديد، لم يقترب أبداً (بحسب المعلوم) من التجنيد لمصلحة الـ«كي جي بي»، يمتلك الصلاحيّات المطلقة في الحكم مع تلك البنية.
وفي هذا الصدد، قد يصبح من السهل التسليم بأنّ بوتين سيتسلم رئاسة الحكومة. فالتحليل في هذا الجانب يتحوّل منطقياً إلى حدّ ما، على اعتبار أنّ «المعلّم» سيبقى يوجّه (في المراحل الصعبة والتعقيدات اليوميّة الروتينيّة على حدّ سواء) التلميذ الوفي الذي عمل على تطوير مهاراته منذ أن كان الاثنان يعملان في بلدية سان بطرسبرغ، تحت قيادة العلّامة السياسي أناتولي سوبتشاك.
وتجربة الحكم الممكن توقّعها في هذه الحالة، يمكن استشفافها عبر تجربة مقزّمة تمثّل «القيادة المخفيّة والواجهة». فالنجاحات التي حقّقها ميدفيديف بصفته رئيساً لمجلس إدارة عملاق الغاز «غازبروم»، يعزوها عديدون (من المقرّبين والمنتقدين) إلى علاقة ناجحة بينه، لكونه ممثّلاً لـ«الوجه الليبرالي» الذي يقدّم المشاريع البرّاقة إلى الجمهور، وبوتين، القائد الذي يتولّى الإدارة الفعليّة من خلال التدخّل في كل التفاصيل. ويمكن إدارج هنا شهادة رئيس «معهد الطاقة» الروسي، النائب السابق لوزير الطاقة في عهد بوتين، فلاديمير ميلوف. فهو يشدّد على أنّ «غازبروم»، التي حقّقت العام الماضي نحو 25 مليار دولار من الأرباح، «كانت دائماً الشركة الخاصّة لبوتين».
* أمّا المسبّب الثاني، فيعود إلى أنّ شخصيّة ميدفيديف قد تخبّئ العديد من المفاجآت. فبحسب المعروف عنه، هو شخصيّة سياسيّة معتدلة كان رافضاً للحصار الذي فرضه الاتحاد السوفياتي على نفسه، وفي مرحلة ما أبرز ما تمنّاه كان بنطلون «ليفايز» أو أسطوانة «ذا وول» لفريق موسيقى الروك البريطانيّ «بينك فلويد». غير أنّ هذا السايسي الشاب الطموح نال إجازته الجامعيّة من كليّة الحقوق في «جامعة لينينغراد»، وهي الكليّة نفسها التي خرّجت الزعيم السوفياتي الراحل فلاديمير لينين، وفيها جنّد عملاء الـ«كي جي بي» فلاديمير بوتين. وهنا يكتسب منطقاً حديث أرملة سوبتشاك، ليودميلا، عن أنّ «خلف ذكائه الخارجي واعتداله، هناك شخصيّة قويّة جدّاً».
وبعد المبايعة الضخمة التي خصّه بها الشعب الروسي (70.22 في المئة من التأييد) سيتسلم ميدفيديف زمام الأمور في الكرملين في السابع من أيّار المقبل. وستصبح بين يديه صلاحيّات مشاركة الحكومة في رسم سياسات السلطة التنفيذيّة، وقيادة القوّات المسلّحة، وتحديد السياستين الداخليّة والخارجيّة للبلاد، إلى جانب واجبات تتعلّق بضمان حريّة المواطن الروسي وأخرى كثيرة تتضمّنها المادّة الرابعة من الدستور الذي أُقرّ عام 1993.
وفي ظلّ هذه القدرات الكثيرة، يمكن التساؤل عن مدى التبعيّة لـ«البوتنيّة» التي قد تميّز سلطة ميدفيديف خلال السنوات الأربع (أو الثماني) المقبلة. ولكنّ السياسي الشاب الذي «هزم» زميله في نيابة رئيس الوزراء سيرغي إيفانوف في معركة «من سيختاره بوتين خليفة»، أعرب في خطاب الفوز وشُكر الناخبين عن حماسة لزيادة «الاستقرار وتحسين مستوى الحياة (ازدادت الرواتب بنسبة 16 في المئة خلال العام الماضي وحده) والمضيّ قدماً على الطريق الذي اخترناه... وسنكون قادرين على المحافظة على المسار (الذي رسمه) الرئيس بوتين».
وبانتظار إشارات على صعيد السياسة الدولية، تظهر بعد تسلّم ميدفيديف الصلاحيّات رسمياً، وتوضح التوليفة الجديدة للحكم (قد يكون أوّلها انعقاد قمّة الدول الثماني العظمى في حزيران المقبل)، يمكن مراقبة كيفيّة التعاطي المباشر الذي ستتبناه موسكو مع ملفات داخلية وإقليمية. وهنا يمكن إدراج «الخطوة العقابيّة الجديدة» التي اتخذتها «غازبروم» في حقّ أوكرانيا أمس، والقاضية بخفض الإمدادات بنسبة 35 في المئة إلى البلد السوفياتي السابق، بسبب تقصير تبليسي في تسديد 600 مليون دولار من ديونها (فشل تؤكّده شركة الطاقة الأوكرانيّة «نافتوغاز» من دون تحديد قيمة الدين)، أو بسبب إظهار سياسة التهديد نفسها (المفتقرة إلى المرونة) مع بلد جار تحكمه «ثورة برتقاليّة ممانعة» تجهد لإدخال البلاد إلى حلف شمال الأطلسي، المكروه روسياً.
لا شكّ في أنّ الغموض يهيمن على سؤال «كيف ستُتّخذ القرارات في روسيا خلال المرحلة المقبلة، وتحديداً على صعيد السياسة الخارجيّة؟». فالغرب سلّم باختيار الشعب الروسي لميدفيديف: الرئيس الأميركي، جورج بوش، «يتطلّع للتعامل معه»، وأوروبا مقتنعة بـ«إرادة المقترعين» رغم «الشبهات حول سير العمليّة الديموقراطيّة»... كلّ ذلك وروسيا الحديثة تعتدّ بنديّتها الدوليّة وللقيصر الجديد استحقاقات تنتظره معظمها سيعتمد على الأرجح على خبرة معلّمه لا على غموض شخصيّته.