strong>بول الأشقريبدو أن أزمة إقليمية غير محسوبة النتائج قد نشأت في أميركا اللاتينية، إثر الغارة الجوية التي شنّها الجيش الكولومبي السبت الماضي على الأراضي الإكوادورية، والتي أدت إلى مصرع الرجل الثاني في منظمة «الفارك» اليسارية، راوول ريّس، ومعه 16 من مقاتليه.
بوادر هذه الأزمة بدأت مع إقفال كل من فنزويلا والإكوادور سفارتيهما في بوغوتا وحشدهما لجيوشهما على حدود كولومبيا.
لقد رفضت الإكوادور «الاعتذار» الكولومبي لخرق حدودها، واصفة إياه بـ«كذبة جديدة»، ومطالبة بضمانات بألّا يتجدد ما حصل، وطردت سفير كولومبيا من أراضيها. لكن في المقابل، طلب مدير الشرطة الكولومبية من الرئيس الإكوادوري، رافائيل كوريا، «تفسيراً» للقاءات بعض وزرائه بقياديي «الفارك»، حسبما كشفت تقارير «محفوظة في كمبيوتر راوول ريّس»، في إشارة جديدة إلى تدهور العلاقات بين البلدين.
الغارة الجوية كانت مخططة ليوم الخميس، وقد أجِّلَت إلى يوم الجمعة بسبب أحوال الطقس، ثم إلى فجر السبت. وقبل يومين من وقوعها، كان الرئيس الكولومبي، الفارو أوريبي، يُطمئن وزراءه عن «خبر سار سيأتي في الأيام المقبلة»، وسيغطي على الانطباع السيّئ الذي تركه الإفراج الأخير عن الرهائن الذين طالبوا فور إطلاقهم بضرورة تجريد مناطق من السلاح لإنهاء مأساة الرهائن، وهو الشرط الذي تطالب به «الفارك» ويرفضه الرئيس الكولومبي بشدة.
وفاجأت الغارة المخيم نائماً، حيث وجد الجنود الإكوادوريون لدى وصولهم جميع الجثث في ملابسها الداخلية، إضافة إلى ثلاثة جرحى.
بعد الغارة، أُنزلت مجموعة من الوحدة الخاصة الكولومبية لسحب جثة ريّس وقائد آخر من الفارك ملقب بـ«المطرب»، لأنه يؤلف أناشيد «الفارك» والأغنيات الرائجة في معسكراتها.
وبالنسبة إلى ريس، فإن قتله يمثِّل ضربة قاسية لمنظمة «الفارك». إذ إنها المرة الأولى منذ اندلاع الصراع قبل نصف قرن تقريباً يستطيع فيها الجيش الكولومبي قتل أحد أعضاء مجلس أمناء «الفارك» المؤلف من سبعة أعضاء، الذي كانت تحيط به هالة أسطورية من المناعة.
وراوول ريّس ـــــ وهو اسم مستعار لإدغار ديفيا من مواليد 1948ـــــ هو رجل صغير القامة (طوله 155 سنتيمتراً)، آتٍ من العمل النقابي في الحزب الشيوعي، التحق بـ«الفارك» عام 1975، حيث شغل مراكز مهمة، مثل مسؤول المالية ومسؤول العلاقات الخارجية. وشارك في جميع الوفود التي حاورت الحكومة المركزية في الثمانينيات والتسعينيات، قبل أن يصبح المتحدث الرسمي باسم المنظمة.
والرجل الذي كان حلقة الاتصال مع الحكومة الفرنسية في شأن قضية الرهينة إنغريد بيتانكور، حسبما قال وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير، كان يعيش بعيداً عن باقي القيادة، ويُكرّس وقته لإعطاء عشرات من المقابلات للصحافة الأجنبية.
بهذا المعنى، يمثِّل قتله هدفاً رمزياً أكثر منه إنجازاً عسكرياً، ولكنه يشير أيضاً إلى أن القوات النظامية الكولومبية المدعومة من خبراء عسكريين من الولايات المتحدة نجحت في السنوات الأخيرة في تحديث صفوفها والإمساك بالمبادرة العسكرية وعزل جبهات «الفارك» بعضها عن بعض وخرق صفوف المنظمة المقاتلة بعملها الاستخباري. وهي صورة معكوسة لما كان سائداً من قبل في التسعينيات، ما يُفسّر الضربات المتتالية التي تلقتها الفارك في الآونة الأخيرة من دون استعادة قدرتها على الردّ.
أتت الغارة العسكرية التي لقيت وقعاً طيباً في الرأي العام الكولومبي بعد أيام قليلة من الإفراج عن الرهائن الأربع وتسليمهم للرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، الذي صرح بأن التشاور أصبح متقدماً لتأليف «مجموعة أصدقاء كولومبيا» (مجموعة من الدول الأوروبية والأميركية الجنوبية، ستأخذ على عاتقها التوسط بين الحكومة والفارك). هدف هذه الغارة كان نسف الجهود مرة جديدة من الأساس: في فنزويلا، استغل تشافيز برنامجه الإذاعي للتضامن مع الإكوادور: واصفاً الغارة بـ«الجريمة الجبانة». وقال: «تأتي قوات أميركية وكولومبية وتقتل وتسحب جثثاً، خارقةً لا أدري كم قانون وقانون دولي وكولومبي... ثم يقولون إنهم لم يخرقوا أية سيادة إكوادورية»، مشيراً إلى أن «هذا ما تقوله الولايات المتحدة لاحتلال العراق ولقصف أفغانستان، وهذا ما تقوله إسرائيل لارتكاب مجازرها». ورأى تشافيز أن «الولايات المتحدة منزعجة من الجمعية التأسيسية في الإكوادور... وحكومة كولومبيا أصبحت تهديداً للسلام في المنطقة... لا نريد حرباً، ولكننا لن نقبل بأن تأتي الإمبراطورية أو جروها لإضعافنا... لن نقبل بإسرائيل في أميركا الجنوبية».
أما الرئيس الإكوادوري كوريا، فرأى أن الرئيس أوريبي، الذي اتصل به بعد الغارة لإبلاغه أن إطلاق نار باشر فيه «الفارك» امتد إلى الأراضي الإكوادورية مع هروب الثوار إليها، قد «خدعه». ووصف الغارة بـ«المجزرة الرهيبة»، واعداً بمتابعة القضية «حتى نتائجها الأخيرة»، لأنها تدل على «خرق مخطط لسيادتنا»، ووعد برفع القضية إلى كل المحافل الإقليمية، وباشر اتصالاته بجميع رؤساء أميركا اللاتينية.
ربما أضعفت هذه الغارة منظمة «الفارك»، لكنها بالتأكيد خلخلت النظام الإقليمي، وقد تكون ضحيتها الأولى قمة رؤساء أميركا الجنوبية المنوي انعقادها نهاية هذا الشهر في كولومبيا.