تقرير أميركي يروي حكاية «انقلاب» شاركت في التحضير له السعودية ومصر والأردن والإمارات
واشنطن ـ محمد سعيد
ما عرف عن خفايا الاقتتال الداخلي الفلسطيني وخفايا الحسم العسكري في قطاع غزة لا يزال أقل بكثير مما هو غير معروف وتكشفه الوثائق يوماً بعد يوم، لتؤكّد أنه كان جزءاً من مخطط عام، اشترك فيه الداخل الفلسطيني مع الخارج الأميركي لتنسيق حرب أهليّة تسوّغ للرئيس الفلسطيني محمود عباس حل الحكومة التي شكلتها حركة «حماس» وإعلان حال الطوارئ في أراضي السلطة.
مثل هذا المخطط كانت تتناقله الألسن والمصادر من دون توثيق يؤكد خبايا الاجتماعات الثنائية بين قيادات «فتحاوية»، في مقدمها محمد دحلان، ومسؤولين أميركيين خطّطوا بشكل مباشر لإقحام الساحة الفلسطينية بحرب دموية، تتيح إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الانتخابات التشريعية في كانون الثاني 2006، التي أوصلت حركة «حماس» إلى الحكم.
مجلة «فانيتي فير» الأميركية كشفت، أمس، جزءاً من هذه الوثائق، التي سلّطت الأضواء على سلسلة خطط وافق عليها الرئيس الأميركي جورج بوش وأدارتها وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ونائب مستشار الأمن القومي، أليوت ابرامز، مستعرضة أحداثاً أساسية ساهمت في الوصول إلى «الحسم العسكري» في القطاع.
ولإعداد التقرير، تنقّل الصحافي ديفيد روز، بين غزة ورام الله وتل أبيب والقاهرة وواشنطن، مستحصلاً على اعترافات، أبرزها من دحلان نفسه، عن دوره في إشعال فتيل الحرب الداخلية تحت مسمّى «الدفاع عن النفس»، والاتفاق مع واشنطن على تسليح وتدريب القوات التابعة لـ«فتح» لمواجهة «حماس».
وينطلق التقرير من إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش «التزامه» التوصل إلى اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بحلول نهاية العام الجاري، وإقراره بأن «الوضع صعب»، متجاهلاً دوره الشخصي في خلق هذه الفوضى في أكثر من مكان، بدءاً من إصراره على إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية، رغم التحذيرات «الفتحاوية»، التي يقول دحلان إنه نقلها إلى المسؤولين الأميركيين، بأن الحركة «لم تكن جاهزة»، ولا سيما أن صفة «الفساد» كانت ملتصقة بـ«فتح» جماهيرياً، وهو ما لعبت عليه «حماس» بشكل مباشر خلال حملاتها الانتخابية.
وقد شكل فوز «حماس» مفاجأة لإدارة بوش. وقال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) «كل واحد ألقى باللوم على الآخر. لقد جلسنا في البنتاغون قائلين اللعنة على من أوصى بها». وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية «لقد كنا في الإدارة نتحدث بصوت واحد. ينبغي علينا أن نعصر هؤلاء الناس، إذ إنه مع فوز حماس، فإن أجندة الحرية قد أصبحت ميتة».
ومع فوز «حماس» بالانتخابات، بدأ العمل الأميركي لإطاحة حكم الحركة، بالتعاون مع دحلان وآخرين من قيادات «فتحاوية». وإن كانت المجلة لم تشر مباشرة إلى ضلوع الرئيس محمود عباس بالتخطيط، إلا أن سياق الأحداث التي يوردها روز تؤكّد أنه كان على اطّلاع بالخطة ومجريات، رغم أن تنفيذها كان موكلاً إلى دحلان، الذي عيّنه عباس مستشاراً للأمن القومي ليكون له اليد الطولى في السيطرة على الأجهزة الأمنية في إطار ما تقتضيه الخطّة.
الخطوة الأولى في الخطة الأميركية كانت الشروط التي فرضتها «الرباعية الدولية» للاعتراف بحكم «حماس»، وهي الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف، والاعتراف بالاتفاقات السابقة والموقّعة. رفض الحركة للشروط أدّى إلى قطع المساعدات الدولية عن السلطة الفلسطينية. ويشير التقرير إلى أن الرئيس محمود عبّاس كان توّاقاً إلى استعادة الدفق المالي وقدرته على الرعاية. ولم يكن عباس قادراً على ذلك من دون مساعدة الولايات المتحدة. ويورد التقرير ما دار في اجتماع بين عباس ورايس في الرابع من تشرين الأول عام 2006 في مقر المقاطعة. وينقل عن شهود خلال الاجتماع قولهم إن نبرة وزيرة الخارجية كانت حادة وهي تقول لعباس إن «عملية عزل حماس لا تؤتي نتيجة». وأبلغته أن واشنطن تتوقع منه «حل حكومة اسماعيل هنية في أقرب وقت ممكن وإجراء انتخابات جديدة».
وتنقل المجلة عن مسؤولين فلسطينيين قولهم، إنه خلال الاجتماع، الذي تمّ في شهر رمضان، وافق عباس على القيام بذلك في غضون أسبوعين. لكن بعد جلوسه إلى رايس إلى مأدبة الإفطار، طلب عباس من الوزيرة الأميركية مهلة أسبوعين إضافيين. وبعد مغادرتها الاجتماع قالت رايس لمرافقيها، بحسب المجلة، «هذا الإفطار اللعين كلّفنا أسبوعين إضافيين من حكم حماس».
وقد أكد القنصل الأميركي في رام الله جاكي والاس هذا الأمر، كاشفاً عن أنه مع اقتراب نهاية مهلة الشهر، حضر إلى عباس حاملاً ما يمكن تسميته «إنذاراً بضرورة اتخاذ قرار إعلان حالة الطوارئ وتشكيل حكومة طوارئ إذا لم توافق حماس على مطالب الرباعية». ولدى مغادرته مكتب عباس، نسي على الطاولة الورقة التي تتضمن نقاط الإنذار الذي كانت الخارجية الأميركية قد أملتها عليه.
ومع تلكؤ عباس في الالتزام بوعده للأميركيين، كان لا بد من وسيلة أخرى لإطاحة «حماس». وكان التركيز في الخطة الجديدة على محمد دحلان، الذي قال للمجلة «إنه حاول، منذ فوز حماس في الانتخابات، أن يوهمها بأنه لا يزال لدى فتح وأجهزتها الأمنية القدرة والقوة لمواجهتهم»، وخصوصاً أن لدى الأجهزة الأمنية أكثر من 70 ألف عنصر أمني، في وقت لا يتوفر فيه لدى «حماس» أكثر من 12 ألف نصفهم من القوة التنفيذية. وأضاف «ولكن في داخلي كنت أعرف أن ذلك لم يكن حقيقياً».
وأشارت المجلة إلى أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية كانت المتضرّر الأكبر من وقف المساعدات التي أدت إلى قطع الرواتب، فيما كانت «حماس» تتلقى الأموال من إيران. وينقل روز عن القيادي في الحركة الإسلامية في الضفة الغربية، أيمن دراغمة، قوله إن الحركة «تلقت من طهران خلال عام 2007 وحده 120 مليون دولار كجزء بسيط مما كان عليها أن تدفعه»، فيما قال مسؤول آخر إن الرقم اقترب من 200 مليون دولار.
وفي إطار الخطة البديلة، شن دحلان «حرباً ذكية للغاية» لأشهر تم في خلالها استخدام تكتيك «الاختطاف وتعذيب عناصر حماس والقوة التنفيذية». ويقر دحلان بهذه الحرب باعتبارها «دفاعاً عن النفس»، مشيراً إلى أنه لم يأمر بعمليات التعذيب ضد أفراد «حماس»، ويؤكّد أنه لم يقتل أحداً منهم.
ونقلت المجلة عن مسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية قولهم إن مساعد رايس لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد ولش، لم يكن يأبه لحركة «فتح» بقدر ما كان يريد النتائج و«كان يدعم أي ابن عاهرة ممكن أن يؤدي المهمة. ودحلان كان أفضل ابن عاهرة نعرفه. كان رجلنا».
وقد بدأت الولايات المتحدة على الفور في وضع خطة سرية أطلقت عليها تسمية «كونترا ـ2» أوكل تنفيذها إلى رايس وإبرامز. وتستهدف تدريب خمسة عشر ألفاً من مقاتلي «فتح» ودعمهم بالسلاح والمال تحت إشراف محمد دحلان بالتنسيق مع الجنرال كيث دايتون، المنسق الأميركي الخاص لإصلاح أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، والذي التقى دحلان في تشرين الثاني 2006 في أول سلسلة محادثات مطوّلة في القدس المحتلة ورام الله بحضور مساعديهما.
وقد وضع دايتون، بحسب المجلة، جدول أعمال قوياً جداً. وقال لدحلان «لا بد من إصلاح أجهزة الأمن الفلسطينية، ولكن نحتاج أيضاً إلى بناء قواتك للتصدي لحماس». وقد رد دحلان بأنه «يمكن هزيمة حماس على المدى الطويل بوسائل سياسية، ولكني إذا قمت بمجابهتهم فإنني أحتاج إلى موارد جوهرية، وليس لدينا القدرة على ذلك حالياً».
وقد اتفق الاثنان على العمل بشأن خطة أمنية فلسطينية جديدة تتضمن تولي دحلان مسؤولية الإشراف على كل الأجهزة الأمنية من موقعه الجديد مستشاراً لرئيس السلطة للأمن القومي وأن تقوم الولايات المتحدة بتزويد الأجهزة الأمنية بالأسلحة والتدريب. واقترح دايتون حل جهاز الأمن الوقائي المتهم بعمليات تعذيب وخطف، غير أن دحلان رفض ذلك بدعوى أن جهاز الأمن الوقائي «هو الجهاز الوحيد الذي يحمي فتح والسلطة في غزة».
وبحسب الخطة، كان من المقرر أن تعطي الولايات المتحدة 86.4 مليون دولار إلى أجهزة الأمن الفلسطينية، لكن مع تعثر تمرير المبلغ عبر الكونغرس، لجأت الولايات المتحدة إلى مصدر تمويل آخر هو الدول العربية، ومن هنا أخذت الخطة اسم «إيران ـــ كونترا 2»، إذ إنها كانت شبيهة بفضيحة بيع الأسلحة لإيران في مقابل دعم المتمردين ضد نظام حكم الساندينستا في نيكاراغوا.
الدول العربية الأربع التي اعتمد عليها هي: السعودية ومصر والأردن والإمارات. وقد اجتمعت رايس مع وزراء خارجيتها، الذين وافقوا على تولي التدريب والدعم المالي. وقد جمع بالفعل مبلغ ثلاثين مليون دولار كما رصدت الولايات المتحدة أكثر من مليار دولار للدعم خلال خمس سنوات، وقد تبع ذلك نقل كميات من الأسلحة في شاحنات من مصر والأردن إلى مقاتلي «فتح» فى غزة.
النكسة للخطة الأميركية كان اتفاق مكة بين «حماس» و«فتح» في شباط 2007، الذي تلقته رايس بغضب، ودفعها إلى المزيد من الضغط وبلورة «الخطة ــ ب» بدعوة عباس إلى إطاحة حكومة الوحدة الوطنية إذا أصرّت «حماس» على موقفها برفض «الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود». وطلبت منه ممارسة سلطاته بإعلان حالة الطوارئ وحل الحكومة والدعوة إلى انتخابات مبكرة.
كما تدعو الخطة إلى تعزيز قوات فتح الأمنية بـ15 ألف عنصر وإضافة 4700 عنصر مدرب تدريباً عالياً تضمهم سبع كتائب جديدة. مع توفير دورات تدريب في الأردن ومصر وتزويدها بالأسلحة للقيام بمهماتها الأمنية. وتقول الخطة إن الأموال التي تحتاجها تبلغ 1.27 مليار دولار لخمس سنوات.
وأكدت المجلة أن الخطة، التي سمّيت بخطة دايتون، والتي نشرت جزءاً منها صحيفة «المجد» الأردنية في 30 نيسان 2007 هي حقيقية، مضيفة أن دايتون وفريق «المؤامرة» قد أخطأوا الرهان على دحلان وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية حيث أثبتت الوقائع أن «حماس» هي الأقوى في غزة، إذ إنها تحسّبت لما يعدّ لها ونفّذت انقضاضاً بديلاً.
وتنقل المجلة عن مسؤولين في «حماس» قولهم إن الخطة كانت احتلال مباني الأمن الوقائي، في ظل غياب دحلان للعلاج في الخارج، لكن المقارّ الأمنية بدأت تتساقط واحداً تلو الآخر «كأحجار الدومينو».