مصر السادات». «مصر عبد الناصر».«مصر مبارك».«مصر المجهول». بلاد تئنّ من وطأة الأدوار التي أدتها. بين الحروب والسلام، مهمّات قامت بها ولّدت لها دوراً هجيناً: دولة شرطيّة ترهقها أزمتها الداخليّة. يتطلّع أهلها إلى غد أفضل، إلّا أنّ صفة «الأخ الأكبر» في المنطقة لا تنفكّ تلصقها بها الدولة الأقوى في العالم
القاهرة ـ وائل عبد الفتاح
«هذه مصر أخرى تماماً». المتحدّث محام من جيل ترك السياسة أوّل عهد الرئيس حسني مبارك بعد الولادة في «عصر الأحلام الكبيرة» وصدام مرحلة الشباب مع «تغيير مؤشّر الأحلام» في عهد الرئيس أنور السادات. لم يعد ناصرياً، لكنّه يشعر بضياع ما. عندما تحدّث كان يشير إلى ضاحية «القاهرة الجديدة» على أوّل الطريق الصحراوي بين العاصمة ومدن قناة السويس.
«هنا كانت مشارف الحرب مع إسرائيل»، يذكّر نفسه، بينما ملامح قصور طبقة جديدة تلوح على «مرتفعات القطامية»، حيث يقيم خليط من مسؤولين كبار في الدولة وأثرياء من نوع جديد لا يُعرف مصدر ثروته ولا ثقافته. «هذه دولة جديدة تقام هنا، وهؤلاء هم حكام مصر الجدد... وأين مصر؟» لم يكتمل السؤال أمام فيض مشاهد وحكايات كلها تدور حول «الغياب».
تقارير أميركية ظهرت في الآونة الأخيرة وضعت مصر في الموقع ٧٨ بين ١٤٠ دولة ضعيفة لا تستطيع بناء مؤسّسات، وتنذر سياساتها بالصدام بين فئات المجتمع. تقارير أخرى أشارت إلى تكدّس ثروات هائلة في مصر نتيجة عمليّات الفساد وغسل الأموال. وفي المقابل، ارتفاع جنوني في الأسعار يضع فئات محرومة أصلاً من عطايا النظام على سطح صفيح ساخن. وعطايا النظام تذهب فقط إلى 0.5 في المئة من المجتمع. وهؤلاء مشغولون بإعداد جسور الهروب من مصر في اللحظة المناسبة.
وحتى وهم في مصر، يهربون إلى أماكن ونوادٍ وقصور وشواطئ خاصة. يمكن الواحد منهم خوض معركة لحجز فيلا في منتجع صيفي يتجاوز سعرها مليوني دولار، ولا يمكنه خوض حرب لتعديل قوانين أو إصلاح النظام السياسي أو الاقتصادي. شريحة الثروات هي صاحبة المصالح العليا الآن ويحميها من بعيد نظام يكبر على مستوى العمر (مبارك أكبر الحكام وضرب أرقاماً قياسية في الاستمرار)، بينما نفوذه السياسي ينكمش ويقتصر على أدوار وساطة وانشغال بصناعة «عائلة حاكمة» من أصحاب النفوذ، لا من عائلته الصغيرة فقط. وهذه تحتاج إلى استمرار نظام حراسة من نوع قديم، أي إنّ نظام مبارك يؤدي أدواراً جديدة في محيطه السياسي، بينما تسيطر عليه المناخات القديمة.
مسؤول رفيع المستوى تحدّث في كواليس عن محاولات حلّ أزمة مهاجرين مصريّين في دولة عربيّة. قال إن «الأوضاع ليست على ما يرام... كلّ شيء أصبح بيد الأمن... القرارات المتعلّقة بالشؤون الخارجيّة يديرها ضباط في جهاز أمن الدولة»، بينما يدير الملفّات الخارجيّة كلّها مدير الاستخبارات، اللواء عمر سليمان، وهذه وحدها ظاهرة نادرة على مستوى العالم، إلّا أنّها تشير إلى أنّ فكرة الأمن والتأمين هي هاجس نظام مبارك.
وهي فكرة غريبة على نظام تغيّر موقعه على أكثر من مستوى. فهو انتقل من قيادة الحرب على إسرائيل إلى قيادة الصلح معها، ومن حكم «الكاكي» والجنرالات إلى حكم البذات الأنيقة ورجال الأعمال. الرئيس جمال عبد الناصر ورث فكرة قديمة من أيّام محمد علي، مفادها أنّ «أمن مصر خارج حدودها».
ولم يكن غريباً أن يتفق الملك فاروق مع عبد الناصر في أولويّة مواجهة أحلام العصابات الصهيونيّة. وهكذا تربّت الجيوش في العهدين على أنّ العدو الرقم واحد هو: إسرائيل. لكن هوى الحكّام تغيّر. وانتقلت مصر من قيادة العالم ضدّ «جبروت أميركا» إلى المنافسة على دور بوليس المنطقة.
وكان الخروج من الحرب مع إسرائيل أوّل شروط الدخول في المنافسة. وليس المهم النظر في الاختلاف مع هذا التغيير أو اعتباره «خيانة» أو «هزيمة سابقة التجهيز». المهمّ هو تأمّل ما حدث. تغيّرت المواقف ولم تتغيّر المفاهيم: الأمن القومي نفسه من دون تغيير التربية العسكريّة.
الـ«بروباغندا» الرسميّة تروّج أنّ خروج مصر من الملعب هو حكمة لا يعرفها المغامرون وعشّاق القتال المجاني بالإنابة. وأنّ توقيع اتفاقيّات السلام مع إسرائيل منح مصر فرصة إعادة بناء الدولة المنهكة من الحروب. وهي أفكار تعجب قطاعات كبيرة من شعب حُرم من حياته الطبيعية بسبب الحروب. وبرّرت له كلّ الأنظمة، من عبد الناصر إلى مبارك مروراً بالسادات، بأنّ كلّ كوارث الفقر وتأجيل الديموقراطية هي بسبب الحرب مع إسرائيل.
عبد الناصر بنى أمجاده على وضع البلد كله على خط النار. والسادات سحبها إلى «كتالوغ» النعيم والرخاء على الطريقة الأميركية. ومع مبارك، اكتمل طريق السادات، لكن بحذر الموظفين. وتحوّل الخوف من الحرب إلى شعور بديل للإقدام المفرط على الحرب. لم يتغيّر سوى اتجاه الحماسة فقط. حماسة الحرب صنعت لمصر موقع الأخ الأكبر في المنطقة العربية. وحماسة الخروج من الحرب استثمرت الأخ الأكبر في إضعاف الجبهات الأخرى.
محاولة إعادة بناء الدولة في مصر حرّكتها روح خائفة هاربة من الحرب رغم أنّه عملياً وتاريخياً خرجت مصر منتصرة من حرب تشرين ١٩٧٣. لكنّ إيديولوجية اليأس والخوف من مواجهة أميركا حوّلت النصر إلى شعور بالهروب وكسر الإرادة. وبدا السلام بعد كلّ هذه السنوات كرضوخ لأوامر من الدولة الجبارة، التي وصل التحدّي لها في الجمهوريّة الأولى إلى التخطيط لإنشاء قوى ثالثة خارج هيمنتها على العالم.
بداية كسر الإرادة جاءت من عبارة قالها السادات: «99 في المئة من أوراق اللعبة في يد أميركا». ربما كان يريد أن يكون عملياً، ويقرّر حقيقة (مختلفاً على دقّتها)، لكنّه في الحقيقة، ومن يومها، ألغى فكرة الإرادة الخارجة عن السيطرة.
ألغاها ولم يصنع لها بديلاً. لا تزال مصر منهكة. رغم أنّ آخر حروبها كانت عام 1973. وأجبرت على خوض حرب «تحرير الكويت» رغم أنّها كانت ضدّ أمنها القومي. وأُجبرت على دور الوسيط، بعدما كانت طرفاً وشريكاً. كأنّها تنفّذ اتفاقية هزيمة. تنسحب من المواجهة، لكن ليس مسموحاً لها التفكير إلّا في تسيير المراكب المعروفة سلفاً إلى أين تتّجه.
هذه أدوار خانقة للأخ الأكبر. المقيّد بسلاسل كثيرة، أوّلها الأدوار القديمة التي يستعيض عنها بالأغاني الحماسيّة المستعادة من الستينيات، وآخرها الدور المنتظر من أميركا وإسرائيل في ضبط إيقاع المنطقة كيلا تخرج عن السيطرة. وهذه تقريباً أزمة الأخ الأكبر.